كيف تؤثر عادات شرب القهوة على ميكروبيوم الأمعاء؟ دراسة حديثة تجيب

نشرت مجلة Nature Microbiology   دراسة علمية بارزة كشفت عن ارتباط وثيق بين استهلاك القهوة وتركيبة ميكروبيوم الأمعاء لدى الإنسان. وأظهرت الدراسة أن الأشخاص الذين يشربون القهوة بانتظام لديهم مستويات أعلى بكثير من نوع معين من البكتيريا يُعرف باسم Lawsonibacter asaccharolyticus مقارنة بأولئك الذين لا يستهلكون القهوة. هذا الاكتشاف يسلط الضوء على العلاقة العميقة بين العادات الغذائية اليومية وصحة الأمعاء، مما يوفر تفسيرًا جديدًا للفوائد الصحية المرتبطة بالقهوة.

القهوة والميكروبيوم

تُعدّ هذه الدراسة واحدة من أكبر الدراسات في هذا المجال، حيث قامت بتحليل عينات براز ودم مأخوذة من أكثر من 22,800 مشارك في المملكة المتحدة والولايات المتحدة. كما استفادت من بيانات ضخمة شملت 211 مجموعة دولية تضم 54,200 شخص من مختلف أنحاء العالم. وأظهرت النتائج أن الميكروبيوم لدى محبي القهوة يختلف بشكل ملحوظ عن غيرهم، حيث أظهرت البكتيريا Lawsonibacter asaccharolyticus وفرة تصل إلى ثماني مرات أكثر لدى الأشخاص الذين يشربون القهوة مقارنة بمن لا يستهلكونها. وكان هذا النمط ثابتًا عبر مختلف الفئات الجغرافية والسكانية.

لماذا اختيرت القهوة؟

اختار الباحثون القهوة محورًا لهذه الدراسة لسببين رئيسيين: أولًا، لأنها واحدة من أكثر المشروبات استهلاكًا على مستوى العالم، مما يجعلها نموذجًا مثاليًا لدراسة تأثير العادات الغذائية. ثانيًا، لأن استهلاك القهوة عادة يومية منتظمة لدى محبيها، أو غير موجودة تمامًا لدى الممتنعين عنها، مما يقلل من احتمالية التداخل مع عوامل أخرى في البيانات.

كما أشار الباحثون إلى أن التركيبة الكيميائية الفريدة للقهوة وارتباطها المعروف بالفوائد الصحية جعلتها نموذجًا مثاليًا لاستكشاف تأثير الأغذية على الميكروبيوم.

اكتُشفت هذه البكتيريا لأول مرة عام 2018، ورغم قلة الدراسات التي تناولتها، فإن وجودها بكثرة في ميكروبيوم عشاق القهوة يشير إلى دورها المحتمل في تعزيز الفوائد الصحية المرتبطة بالقهوة. وأظهرت التجارب المخبرية أن القهوة تُحفّز نمو هذه البكتيريا بشكل مباشر، بغض النظر عما إذا كانت القهوة تحتوي على الكافيين أم لا.

وأرجع الباحثون هذا التأثير إلى المركبات النشطة بيولوجيًا في القهوة، مثل حمض الكوينك والتريغونيلين، التي يُعتقد أنها توفر بيئة مثالية لنمو البكتيريا في الأمعاء.

تأثير القهوة البيوكيميائي

أحد أبرز نتائج الدراسة هو أن تأثير القهوة على الميكروبيوم لا يعتمد فقط على الكافيين. إذ أظهرت القهوة منزوعة الكافيين تأثيرات مشابهة لتلك المحتوية على الكافيين، مما يشير إلى أن المركبات الأخرى، مثل البوليفينولات، تلعب دورًا رئيسيًا.

البوليفينولات، وخاصة حمض الكلوروجينيك، معروفة بخصائصها المضادة للأكسدة والمضادة للالتهابات. ويتم استقلاب هذه المركبات في الأمعاء إلى مواد نشطة بيولوجيًا، مثل حمض الكوينك، الذي يتفاعل مع ميكروبات الأمعاء لتعزيز الصحة.

الآثار العالمية والثقافية

كشفت الدراسة عن اختلافات ملحوظة في انتشار Lawsonibacter asaccharolyticus بين السكان. ففي المجتمعات ذات النمط الغذائي الغربي، حيث يُستهلك القهوة بشكل كبير، كانت هذه البكتيريا أكثر وفرة مقارنة بالمجتمعات الريفية أو غير الصناعية، حيث يكون استهلاك القهوة محدودًا. هذا التفاوت يُبرز تأثير العادات الغذائية على تنوع الميكروبيوم.

وأظهرت النتائج أن استهلاك ثلاثة أكواب يوميًا من القهوة كان كافيًا لتعزيز مستويات هذه البكتيريا بشكل كبير. ومع ذلك، لم تُلاحظ زيادات إضافية كبيرة مع زيادة استهلاك القهوة عن هذا الحد.

القهوة وفوائدها الصحية الأوسع

لطالما ارتبط شرب القهوة بالعديد من الفوائد الصحية، مثل تقليل مخاطر الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية، والسكري من النوع الثاني، وبعض أنواع السرطان، بالإضافة إلى تحسين الصحة الأيضية. تضيف هذه الدراسة بُعدًا جديدًا لفهمنا لهذه الفوائد، حيث تشير إلى أن تأثير القهوة على الميكروبيوم، خاصة في تحفيز نمو Lawsonibacter asaccharolyticus، قد يكون عاملاً رئيسيًا.

رغم ذلك، يبقى دور هذه البكتيريا غير واضح تمامًا. فهل تسهم مباشرة في تعزيز الصحة، أم أنها تعمل بالتنسيق مع ميكروبات أخرى لتحسين صحة الأمعاء بشكل عام؟

منهجية دقيقة ونتائج مبتكرة

اعتمدت الدراسة على نماذج تعلم آلي متقدمة لتحليل البيانات، مما ساعد على تصنيف المشاركين إلى ثلاث فئات: الممتنعون عن القهوة، والمستهلكون المعتدلون، والمستهلكون بكثرة. وأظهرت النماذج دقة عالية في التمييز بين الفئات بناءً على تركيبة الميكروبيوم.

كما استُخدمت منهجيات متعددة تشمل تحليل الميتابولوميات في البلازما لفهم التفاعلات الكيميائية بين القهوة والميكروبات بشكل أفضل. هذا النهج الشامل قدم صورة دقيقة ومتكاملة لتأثير القهوة.

أبرز النتائج

  1. تركيبة الميكروبيوم: لوحظت اختلافات كبيرة في ميكروبيوم عشاق القهوة مقارنة بغيرهم، مع زيادة ملحوظة في بكتيريا Lawsonibacter asaccharolyticus.
  2. العلاقة بالجرعة: كان الاستهلاك المعتدل (ثلاثة أكواب يوميًا) كافيًا لتعزيز مستويات البكتيريا، بينما أظهر الاستهلاك الزائد تأثيرًا أقل.
  3. تأثير مستقل عن الكافيين: كان للقهوة منزوعة الكافيين تأثير مماثل، مما يؤكد دور المركبات غير المرتبطة بالكافيين.
  4. الاتساق العالمي: النتائج كانت متشابهة عبر مختلف السكان، مما يبرز التأثير العالمي لهذا الارتباط.

آفاق البحث المستقبلي

تفتح هذه الدراسة آفاقًا جديدة للأبحاث والتطبيقات العملية. من خلال تحديد المكونات الغذائية التي تؤثر على الميكروبيوم، يمكن للعلماء تطوير تدخلات غذائية مستهدفة لتحسين صحة الأمعاء. على سبيل المثال، قد يستفيد الأفراد الذين يعانون من اختلالات ميكروبية معينة من استراتيجيات تغذية شخصية تشمل القهوة أو مركباتها النشطة.

كما تؤكد الدراسة على أهمية مواصلة البحث حول Lawsonibacter asaccharolyticus. فهم المسارات الأيضية لهذه البكتيريا وتفاعلاتها مع الميكروبات الأخرى قد يفتح الباب أمام علاجات جديدة.

القهوة: جرعة يومية من الصحة؟

بالنسبة لمحبي القهوة، تقدم هذه النتائج تأكيدًا إضافيًا على الفوائد الصحية لهذا المشروب. وبينما يظل الاعتدال هو المفتاح، تُبرز الدراسة التأثير العميق لعادات بسيطة، مثل شرب القهوة، على بيئة الأمعاء الميكروبية.

الخلاصة

تُظهر العلاقة بين استهلاك القهوة وصحة الأمعاء مدى تعقيد التفاعل بين الغذاء والميكروبيوم. تُعزز هذه الدراسة مكانة القهوة كمشروب يُعزز الصحة، وتُبرز إمكاناتها في إلهام علاجات مستقبلة تركز على الميكروبيوم. ومع استمرار الأبحاث في كشف أسرار الأمعاء البشرية، تظل القهوة مثالًا رائعًا على كيفية تأثير العادات اليومية على صحتنا الداخلية ورفاهيتنا العامة.

علي الزكري

 

نشر في :