A small coffee farmer harvesting ripe red coffee cherries by hand into a woven basket, symbolizing the role of smallholders in the global coffee industry.

صغار المزارعين في قلب أزمة القهوة العالمية

دبي، 18 سبتمبر 2025 (قهوة ورلد) – القهوة، هذا المشروب الذي يتجاوز استهلاكه ملياري كوب يوميًا، ليست مجرد رفاهية صباحية، بل صناعة عالمية تقدر قيمتها بأكثر من 200 مليار دولار وتشكل مصدر رزق رئيسي لما يزيد على 25 مليون مزارع صغير حول العالم. غير أن تقريرًا حديثًا أصدره مركز دبي للقهوة التابع لمركز دبي للسلع المتعددة، ضمن سلسلة “مستقبل التجارة الزراعية”، كشف عن تحديات غير مسبوقة تهدد هؤلاء المنتجين الذين يمثلون نحو 80% من الإمدادات العالمية.

وفقًا للتقرير، فإن هشاشة القهوة أمام التغيرات المناخية واضحة وخطيرة. فبينما تستطيع بعض السلع الزراعية التكيف مع تغيرات المناخ، تبقى القهوة رهينة مناطق جغرافية محددة، غالبًا في المناطق الاستوائية وعلى ارتفاعات معينة. أي تغير طفيف في درجات الحرارة أو أنماط الأمطار يمكن أن يطيح بمحاصيل كاملة.

وتشير الدراسات الواردة في التقرير إلى أنه بحلول عام 2050 قد تصبح نصف الأراضي المزروعة بالقهوة اليوم غير صالحة للإنتاج. أرابيكا، التي تمثل بين 60% و70% من الإنتاج العالمي وتشتهر بجودتها العالية، هي الأكثر عرضة للخطر، إذ تحتاج إلى ظروف مناخية دقيقة تجمع بين البرودة المعتدلة وفصول مطيرة وجافة واضحة. حتى الروبوستا، الأكثر تحملًا للحرارة، قد لا يسلم هو الآخر من الانعكاسات الحادة للتغير المناخي.

وقد لمس العالم بالفعل مؤشرات هذا المستقبل المقلق. ففي فيتنام، أدى الجفاف الطويل خلال موسم 2023/24 إلى تراجع الإنتاج بنسبة 20% والصادرات بنسبة 10%. أما البرازيل، أكبر منتج للقهوة عالميًا، فقد عانت من واحدة من أسوأ موجات الجفاف في تاريخها الحديث، ما تسبب في ارتفاع أسعار الأرابيكا بأكثر من 80% خلال عام 2024.

أزمة تسعير وفجوة عدالة

لا تتوقف معاناة المزارعين الصغار عند حدود المناخ، بل تمتد إلى سلاسل التجارة العالمية. فالتقرير يوضح أن آليات التسعير في البورصات العالمية لم تعد تعكس الواقع الفعلي للسوق، بل أصبحت أكثر ارتباطًا بالمضاربة. هذا الانفصال بين الأسعار العالمية وحقيقة الإنتاج يجعل المزارع الصغير في مواجهة غير متكافئة.

فعلى الرغم من أن القهوة قد تباع في الأسواق النهائية بأسعار مرتفعة، فإن المنتج غالبًا ما يحصل على هامش ضئيل بالكاد يغطي تكاليف الزراعة، ما يترك ملايين الأسر عرضة للفقر. وبما أن هؤلاء المزارعين يفتقرون إلى الأدوات المالية والتأمينية لمواجهة تقلبات السوق، فإن أي انهيار في الغلة يترجم مباشرة إلى أزمة معيشية تشمل الغذاء والتعليم والرعاية الصحية.

التعاونيات كخط دفاع أول

أمام هذه التحديات، أخذ المزارعون يبحثون عن حلول جماعية. فقد برزت تعاونيات في رواندا مثل “كووكامو”، التي وفرت التدريب على الزراعة المستدامة وحسّنت قدرة أعضائها على الوصول إلى الأسواق العالمية. وفي دول شرق أفريقيا الأخرى مثل كينيا وأوغندا وإثيوبيا، أصبح تعزيز التعاونيات أداة فعالة لمنح المزارعين وزنًا تفاوضيًا أكبر.

ويشير التقرير أيضًا إلى مشروع “عربيكا”، الذي يضم أكثر من 30 ألف مزارع من 21 تعاونية في المنطقة، والذي وفر التدريب في مجالات إدارة الدخل وتقنيات تحسين الإنتاج، ما عزز من قدرة هؤلاء المزارعين على الصمود أمام تقلبات المناخ والسوق.

كما يبرز نظام تقييم قيمة القهوة، الذي طورته جمعية القهوة المختصة، بوصفه أداة عملية تمنح المزارعين قدرة أكبر على التحكم في مسار منتجاتهم. هذا النظام لا يكتفي بتصنيف القهوة وفق معايير الجودة التقليدية، بل يدمج بين الخصائص الفيزيائية والمذاقية مع متطلبات السوق، ما يسمح بتسعير أكثر دقة وربط مباشر بين المنتج والمستهلك.

ويقول غارفيلد كير، رئيس الجمعية: «القهوة قد تباع عدة مرات قبل أن تصل إلى المستهلك، والمزارع غالبًا لا يعرف قيمتها الحقيقية. إذا استطعنا تزويده بأدوات علمية للتقييم، سيكون قادرًا على التأثير بشكل أفضل في مسارها».

التقرير لا يكتفي برسم صورة التحديات، بل يشير إلى حلول واعدة يمكن أن تشكل مخرجًا لصغار المزارعين. الزراعة الحرجية، التي تقوم على زراعة القهوة تحت ظلال الأشجار المتنوعة، تمنح حماية طبيعية من الحرارة، وتحافظ على خصوبة التربة، وتوفر مصادر دخل إضافية من المحاصيل الجانبية. كذلك فإن تطوير أصناف قهوة مقاومة للجفاف والأمراض بات ضرورة ملحة.

على المستوى الدولي، أطلق المركز الدولي للتجارة بالتعاون مع المنظمة الدولية للقهوة قاعدة بيانات تشمل أكثر من 400 مبادرة للاستدامة والتكيف المناخي في قطاع القهوة، تتراوح بين التدريب على الأسمدة العضوية ودعم المشاريع التعاونية.

ويخلص تقرير مركز دبي للقهوة إلى أن صغار المزارعين يقفون في قلب أزمة القهوة العالمية. فمن دونهم، لا يمكن أن تستمر هذه الصناعة، ولا أن يحافظ العالم على تدفق ملياري كوب يوميًا. وإذا لم تُعتمد سياسات أكثر عدلًا واستثمارات أوسع في التكيف المناخي، فإن مستقبل القهوة برمته سيكون مهددًا.

إنقاذ القهوة يعني أولًا إنقاذ المزارعين الذين ينتجونها. وبينما يتجه العالم إلى ابتكارات مثل البلوك تشين والذكاء الاصطناعي لتعزيز الشفافية، تبقى الأولوية منح هؤلاء المنتجين الأدوات والفرص للاستمرار. فالمعركة الحقيقية ليست في الأسواق أو المقاهي الراقية، بل في الحقول البعيدة حيث يزرع المزارعون الصغار بذور القهوة التي تربط العالم.

Spread the love
نشر في :
WhatsApp Icon