السباق على القهوة.. من الشركات العملاقة إلى الناشئة… من يرسم المستقبل؟
دبي – علي الزكري
لم يكن خبر بيع قهوة جيشا من مزرعة “هاسيندا لا إسميرالدا” في مزاد “أفضل محاصيل بنما 2025” حدثًا عاديًا؛ فقد سُجل رقم قياسي غير مسبوق بلغ 30,204 دولارات للكيلوغرام الواحد. غير أن المفاجأة الأكبر لم تكن في السعر نفسه، بل في هوية المشتري: شركة ناشئة في دبي لم يمضِ على تأسيسها سوى أسبوع واحد، أقدمت على شراء كامل الدفعة البالغة 20 كيلوغرامًا بمبلغ ضخم تجاوز 604 آلاف دولار. مشهد درامي هزّ الأسواق وأشعل النقاشات بين الخبراء والمستثمرين ورواد القهوة حول العالم.
ولم يكد القطاع يستفيق من صدمة هذا الخبر، حتى توالت التطورات المدوية: “كوكاكولا” تدرس بيع سلسلة “كوستا كوفي”، و”برغريزر” تعلن استحواذها على 60% من سلسلة “شَفِل”، فيما تهز صفقة تاريخية أسواق القهوة العالمية مع استحواذ “كيورج د. بيبر” على “بيتس” بقيمة 15.7 مليار يورو. إنها سلسلة أحداث أربكت المشهد وأطلقت أسئلة كبرى عن مستقبل القهوة في دبي والعالم.
هذه الهزات المتتالية دفعتنا في “قهوة ورلد” إلى فتح هذا الملف بجدية؛ مستنيرين بآراء نخبة من الخبراء والرواد في قطاع القهوة، ممن يجمعون بين الجرأة والمصداقية والخبرة العميقة في قراءة هذا السوق شديد التعقيد. حاولنا معهم أن نتوقف أمام القضايا الجوهرية:
-
هل ما يجري مجرد موجة عابرة أم تحوّل استراتيجي طويل الأمد؟
-
كيف ستتأثر دبي والمنطقة بهذه المتغيرات؟
-
وما انعكاسات هذه الصفقات على المنتجين، المحامص المستقلة، ورواد الأعمال الشباب؟
رؤى متباينة… من الاستعراض إلى جوهر القهوة
عندما سألنا خبراء القهوة عن التطورات الأخيرة التي هزّت القطاع، برزت أمامنا تباينات واضحة بين الرؤى، أشبه بمواجهة فكرية تسلط الضوء على عمق التحديات واختلاف المقاربات.
“كيم تومسون” ترى أن تحركات الشركات العملاقة مثل بيع “كوستا كوفي” مجرد إعادة تموضع طبيعي لا يمس جوهر العمل الحقيقي، مؤكدة أن القيمة الحقيقية تبقى في العلاقات مع المزارعين. لكن “مات توغود” يذهب أبعد من ذلك، محذرًا من أن بعض الممارسات الاستعراضية ـ مثل شراء دفعة جيشا كاملة بمبالغ خيالية ـ قد تسيء للسوق أكثر مما تخدمه. في المقابل، تؤكد “كاترينا بوروديتش” أن القهوة أصبحت قطاعًا استراتيجيًا قائمًا بذاته، بينما يرى “فيديريكو أورتيلي” أن هذه التحولات تعكس انتقال الصناعة نحو الابتكار والشراكات التقنية. أما “روبرت جونز” فيعتبر أن ما يحدث اليوم يمثل بداية عصر جديد يُعاد فيه رسم خريطة القهوة عالميًا.
كيم تومسون: «الصفقات الكبرى لا تغيّر جوهر القهوة المختصة»
ترى “كيم تومسون”، الشريكة المؤسِّسة لشركة “قهوة راو”، أن التفكير في بيع “كوكاكولا” لسلسلة “كوستا كوفي” أمر لافت لكنه غير مفاجئ. وتؤكد أن هذه الخطوة لا تغيّر شيئًا في جوهر العمل الحقيقي لشركات القهوة المختصة مثل “قهوة راو”، حيث يبقى التركيز على شراء القهوة مباشرة من المنتجين الموثوقين، وضمان عدالة التجارة، وتقديم القهوة لعملاء يقدّرون الجودة والشفافية.
وتضيف أن هذه التحركات تعكس سعي الشركات متعددة الجنسيات لإعادة التموضع وفقًا لأولويات المساهمين، لكن العمل الحقيقي على الأرض يظل في بلد المنشأ وبين المحامص المستقلة. فالعناوين الكبرى قد تُحرّك الأسواق المالية، لكنها لا تمس جوهر القطاع الذي يضمن فيه المزارعون حقوقهم، وتُبنى فيه علاقات أصيلة ومستدامة.
وعن موجة الصفقات الكبرى، تقول تومسون إن سلسلة الأخبار من أسعار جيشا القياسية في بنما إلى استحواذات المليارات تؤكد أن القهوة أصبحت صناعة متنوعة وسريعة الحركة. لكنها تؤكد أن التطور الأعمق يكمن في تحول أذواق المستهلكين، وزيادة الاهتمام بالقهوة المختصة، والاعتراف بالقهوة كثقافة وسلعة في الوقت ذاته.
وبالنسبة لمزاد بنما، ترى تومسون أن شراء شركة ناشئة في دبي دفعة جيشا كاملة لفت الأنظار لكنه لا يمثل المقياس الحقيقي للاستدامة أو التأثير. فالمقياس برأيها ليس في حجم الأموال المنفقة، بل في كيفية استثمارها في المزارعين، ومشاركة المعرفة، وصناعة تجارب أصيلة للمستهلكين.
وتحذر تومسون من أن ينشغل القطاع بهذه الأخبار المدوية وينسى التحديات الحقيقية التي يواجهها المزارعون: من ارتفاع التكاليف إلى تقلبات الأسواق وتغير المناخ. وتؤكد أن مستقبل القهوة لن يُحسم عبر صفقات المليارات بل عبر تمكين المنتجين ودعم استدامة الزراعة.
مات توغود: «الاستعراض يضر القهوة أكثر مما يخدمها»
يصف “مات توغود”، الرئيس التنفيذي لشركة “قهوة راو”، دبي بأنها مختبر فريد للقهوة المختصة، حيث تغيّرت ذائقة المستهلك خلال 15 عامًا من القهوة المرة التقليدية إلى نكهات متوازنة وحقيقية. ويؤكد أن هذا التحول لم يكن بفعل السلاسل الكبرى، بل بفضل المقاهي المستقلة التي تجرأت على تقديم قهوة مختلفة، متوازنة، غير مُرّة، وبنكهات واضحة.
ويشير إلى أن رد فعل المستهلك في البداية كان مزيجًا من الارتباك والدهشة، لكن النتيجة كانت تحوّلًا تدريجيًا في الذائقة جعل السوق ينفتح أكثر على القهوة المختصة.
أما السلاسل الكبرى، فيرى توغود أنها اكتفت بتسويق لغة الجودة دون تحسين المنتج، حيث استخدمت الحليب والسكر للتغطية على القهوة الرديئة. ويقول إن من غيّر السوق فعليًا هم أصحاب المقاهي المستقلة الذين فهموا سلوك المستهلكين وتكيفوا مع احتياجاتهم.
وفيما يتعلق بمزاد بنما، يصف شراء دفعة جيشا كاملة بالسعر القياسي بأنه خطوة استعراضية غير منطقية تجاريًا. ويؤكد أن هذه الخطوة قد تُضلل المزارعين، وتخلق وهمًا بأن القيمة مرتبطة بالأسعار المبالغ فيها، بينما الحقيقة أن هذه المزادات غالبًا ما تكون محسومة مسبقًا لأغراض دعائية وتسويقية.
كاترينا بوروديتش: «القهوة لم تعد منتجًا تكميليًا… إنها قطاع استراتيجي»
تؤكد “كاترينا بوروديتش”، الرئيسة التنفيذية لشركة “درينكِت الإمارات”، أن استحواذ “برغريزر” على 60% من سلسلة “شَفِل” يعكس تحوّلًا واضحًا: فالقهوة لم تعد منتجًا تكميليًا في قطاع الأغذية والمشروبات، بل أصبحت قطاعًا استراتيجيًا مستقلًا يقود الاستثمارات.
وترى أن هذا الاتجاه يزداد قوة في المنطقة بسبب أسلوب الحياة السريع وثقافة الضيافة، حيث يبحث المستهلك عن الراحة، والنكهة، والتخصيص، والسرعة. وتقول إن منصتها الرقمية في “درينكِت” تلبي هذه الاحتياجات عبر تمكين المستهلك من تخصيص مشروبه حتى في أدق التفاصيل.
وعن دبي، تؤكد بوروديتش أنها لم تعد مجرد سوق استهلاكية، بل أصبحت منصة إقليمية وعالمية للتوسع. وتوضح أن المدينة تكافئ الابتكار والسرعة، وأن ما ينجح فيها يمكن أن يُكرر في أي سوق عالمي.
وترى أن المنافسة في دبي ستزداد حدّة، لكنها ستفتح في المقابل فرصًا أكبر للشركات الناشئة. وتقول إن النجاح لن يتحقق بتقديم القهوة فقط، بل بفهم المستهلك وتقديم تجربة كاملة تتجاوز حدود الكوب.
وتضيف أن هذه الصفقات الأخيرة تعكس ثقة المستثمرين في مستقبل القهوة بالمنطقة، مؤكدة أن الاستثمار لا يُبنى على التوقعات الغامضة بل على واقع من الطلب المتنامي والدعم الحكومي لبيئة الأعمال.
فيديريكو أورتيلي: «دبي ليست سوقًا استهلاكية… إنها مختبر عالمي»
يرى “فيديريكو أورتيلي”، المدير العام لمجموعة “سيمونيللي” في الشرق الأوسط، أن انسحاب “كوكاكولا” من “كوستا كوفي” يعكس توجهًا عالميًا أوسع: فالشركات العملاقة باتت تعيد التفكير في دورها داخل صناعة القهوة، وتتجه نحو التركيز على الابتكار والشراكات التقنية بدلًا من السيطرة الكاملة على سلسلة القيمة.
ويضيف أن استحواذ “برغريزر” على 60% من سلسلة “شَفِل” يمثل دخول رؤوس أموال محلية إلى قطاع كان طويلًا محكومًا باللاعبين العالميين، وهو ما يعزز منظومة الأغذية والمشروبات في المنطقة ويمنحها قوة دفع جديدة.
أما استحواذ “كيورج د. بيبر” على “بيتس” فيراه أورتيلي صفقة تحويلية توحّد بين قوتين عالميتين، مؤكدًا أنها ستزيد المنافسة على التوريد والتسعير، لكنها ستخلق أيضًا فرصًا أكبر للوصول إلى موارد ومنصات جديدة.
وعن دبي، يقول أورتيلي إنها لم تعد مجرد سوق استهلاكية، بل مختبر عالمي يجمع الاتجاهات الدولية مع الابتكار المحلي. ويعتبر أن مكانتها كمركز عالمي للقهوة الفاخرة ستتعزز مع هذه التطورات، خاصة مع التقاء رأس المال المحلي بالتقنيات العالمية.
روبرت جونز: «نحن على أعتاب عصر جديد للقهوة»
يرى “روبرت جونز”، المدير التنفيذي لشركة “كوفي بلانت”، أن قرار “كوكاكولا” بإعادة النظر في “كوستا كوفي” إشارة واضحة إلى أن حتى عمالقة الصناعة يعيدون تقييم رهاناتهم في سوق متغير. ويؤكد أن المستهلك لم يعد يبحث عن الحجم والانتشار، بل عن الجودة والتجربة، وأن العلامات التجارية التقليدية مهددة إذا لم تتطور.
وعن استحواذ “برغريزر” على سلسلة “شَفِل”، يرى جونز أن هذه الخطوة تعكس رغبة المستثمرين في التحكم في الوقت الذي يقضيه المستهلك داخل المقهى وجمع البيانات عنه، معتبرًا أن القهوة أصبحت وسيلة لبناء ارتباط عاطفي مع المستهلكين.
أما صفقة “كيورج د. بيبر” للاستحواذ على “بيتس”، فيصفها بأنها إعادة تشكيل لسلسلة القيمة عالميًا، مع انعكاسات مباشرة على التوريد والتسعير، وضغط على العلامات الصغيرة لتقديم أصالة أكبر وسرد قصص حقيقية.
ويؤكد أن دبي لم تعد على الهامش، بل أصبحت لاعبًا رئيسيًا في القهوة المختصة عالميًا، مشيرًا إلى أن شراء دفعة جيشا القياسية كان رسالة استراتيجية وضعت دبي في صدارة المشهد.
ويختم جونز بالقول: نحن لا نشهد مجرد موجة عابرة، بل إعادة رسم كامل لخريطة القهوة عالميًا. إنه عصر جديد للقهوة، لكن النجاح سيكون لمن يبني برؤية وهدف، لا لمن يلهث وراء الاستعراض.
خِتامًا
من بنما إلى دبي، ومن أسواق المزادات إلى صفقات المليارات، يبدو أن القهوة لم تعد مجرد مشروب يومي أو تجارة تقليدية، بل تحولت إلى ساحة استثمار عالمي تتقاطع فيها رؤوس الأموال العملاقة مع أحلام الشركات الناشئة، وتتصارع فيها الرؤى بين الاستعراض والجوهر، وبين الربح السريع والاستدامة طويلة الأمد.
لقد كشف هذا التحقيق أن الإجابة عن سؤال «ما الذي يحدث في سوق القهوة؟» ليست واحدة. “كيم تومسون” رأت أن جوهر القهوة المختصة يظل ثابتًا مهما تقلبت سياسات الشركات الكبرى. “مات توغود” حذّر من أن المبالغات الاستعراضية قد تسيء إلى السوق أكثر مما تنفع. “كاترينا بوروديتش” أكدت أن المستقبل للشركات المرنة القادرة على الابتكار والاستجابة السريعة. “فيديريكو أورتيلي” وصف دبي بأنها مختبر عالمي يلتقي فيه رأس المال المحلي بالاتجاهات الدولية. أما “روبرت جونز” فأكد أن العالم يعيش بداية عصر جديد يُعاد فيه رسم خريطة القهوة بالكامل.
ما هو مؤكد أن القهوة لم تعد في الظل، بل أصبحت في صدارة المشهد الاقتصادي والثقافي العالمي — وما يحدث اليوم سيحدد ملامح مستقبلها لعقود قادمة.