لم تعد جلسات التذوّق مجرد طقس مهني مغلق على خبراء القهوة، بل أصبحت اليوم لغة كونية يتقنها كل من يعيش في عالم البن. من مختبرات التحميص في العواصم العالمية إلى المقاهي المتخصّصة المنتشرة على امتداد القارات، تتكرّر المشاهد ذاتها: طاولات مصطفة بأكواب متشابهة، أنوف تنحني لتستنشق، وملاعق تطرق حافة الأكواب لتكشف عن أسرار القهوة. هذه الجلسات لم تَعُد تقتصر على تحديد الجودة فحسب، بل تحوّلت إلى مرآة لسمعة القهوة، وإلى أداة تتحكم في قيمتها السوقية، وترسم مسارها من المزرعة إلى المستهلك. إنّها المسرح الذي تُعرض فيه شخصية القهوة للعالم، حيث تُفكّك مكوّناتها وتُسجَّل ملاحظاتها بدقة، ليُصاغ على إثرها مستقبل الحبوب في أسواق مزدهرة أو متعثّرة.
وفي هذا الدليل الشامل، نصحبكم خطوة بخطوة إلى قلب هذه التجربة الفريدة: من تاريخها العريق الذي يبدأ في اليمن، مرورًا بالبروتوكولات الحديثة التي وضعتها جمعية القهوة المختصة، وصولًا إلى الأدوات، المراحل، وأسرار تطوير المهارات. إنه مرجع متكامل لكل من يريد أن يفهم التذوّق، سواء كان محترفًا يسعى إلى ضبط الجودة أو هاويًا يطمح لاكتشاف القهوة بعيون جديدة.
ما هو تذوّق القهوة؟
تذوّق القهوة أو ما يُعرف بالـ Cupping هو الطريقة المعيارية التي يستخدمها خبراء القهوة في جميع أنحاء العالم لتقييم جودة البن. وُضع هذا الأسلوب في البداية كأداة للرقابة على الجودة، ثم أصبح لاحقًا اللغة المشتركة في صناعة القهوة، حيث يمكّن المُصدّرين والمستوردين والمُحمّصين وأخصائيي الجودة من التواصل بلغة موحّدة ودقيقة حول خصائص القهوة.
بعكس طرق التخمير الأخرى التي قد تُخفي بعض السمات أو تُغيّرها، يُظهر التذوّق القهوة في أنقى صورها، بطريقة منهجية وقابلة للتكرار، تكشف عن أفضل ما في الحبوب وأيضًا عن عيوبها.
التاريخ والأصول
تعود جذور تذوّق القهوة إلى اليمن في القرن الخامس عشر، حيث قام المتصوفة لأول مرة بتحضير القهوة كمشروب يساعدهم على السهر في حلقات الذكر والعبادة. ومن مساجد اليمن وزواياه، دخلت القهوة الحياة اليومية، ثم انتقلت عبر ميناء المخا إلى العالم الإسلامي الواسع. وبحلول القرن السادس عشر، كانت المقاهي في مكة وإسطنبول والقاهرة قد تحوّلت إلى فضاءات للنقاش والمقارنة بين نكهات القهوة وجودتها، وهو ما يُعتبر بذور الممارسة التي نعرفها اليوم باسم التذوّق.
في القرن التاسع عشر، ومع توسّع تجارة القهوة عالميًا، طوّرت بيوت التجارة الأوروبية والأمريكية أساليب أكثر تنظيمًا لتقييم القهوة قبل شرائها. وهنا بدأت الممارسات المنهجية للتذوّق كأداة تجارية.
وفي ثمانينيات القرن العشرين، وضعت جمعية القهوة المختصة (SCA) بروتوكول التذوّق الحديث مع استمارات ومعايير قياسية أصبحت المعيار العالمي المتَّبع حتى اليوم.
✦ هل تعلم؟
اليمن هو أول بلد في التاريخ حوَّل القهوة من ثمرة برية في الهضبة الإثيوبية إلى مشروب عالمي. ففي القرن الخامس عشر، استخدم المتصوفة في اليمن القهوة لمساعدتهم على السهر في حلقات الذكر والعبادة، ومن هناك انطلقت إلى الحياة اليومية في مدن مثل عدن وصنعاء. عبر ميناء المخا، صارت القهوة سلعة تُصدَّر إلى الحجاز ومصر وتركيا ثم إلى أوروبا.
ولأن القهوة في اليمن لم تكن مجرد مشروب عابر، فقد بدأ التجار والعلماء هناك بمقارنة نكهاتها ورصد خصائصها، لتكون تلك الممارسات أول بذور ما نعرفه اليوم باسم جلسات التذوّق (Cupping).
العلم وراء التذوّق
تقوم فعالية التذوّق على الدقة والحياد:
-
النسبة: 8.25 غرام من القهوة لكل 150 مل من الماء (1:18.18).
-
درجة حرارة الماء: 93°م (200°ف).
-
الاستخلاص: 18–22% من المواد القابلة للذوبان.
-
طريقة الغمر: من دون ترشيح، لتبقى الزيوت والجزيئات الدقيقة وتظهر الصورة الكاملة للنكهة.
الأدوات الأساسية
ضرورية:
-
أوعية تذوّق متطابقة (7–9 أونصات، من السيراميك أو الزجاج).
-
ملاعق تذوّق عميقة (معدن غير تفاعلي، تقليديًا مطلية بالفضة).
-
طاحونة ذات شفرات مسننة (Burr) لطحن متجانس.
-
ميزان دقيق (0.1 غرام).
-
مؤقّت وميزان حرارة.
-
ماء مُصفّى بتركيب معدني متوازن.
-
وعاء للبصق (Spittoon).
اختيارية لكن مفيدة:
-
استمارات التذوّق المعتمدة من SCA.
-
صواني لعرض العينات الخضراء أو المحمّصة.
-
أطقم روائح للتدريب الحسي.
بروتوكول التذوّق
1. التحضير
-
طحن القهوة بدرجة خشنة متوسطة (مثل فرنش برس).
-
وزن 8.25 غرام لكل 150 مل ماء.
-
تجهيز 5 أوعية لكل عينة لضمان التكرار.
2. العطر الجاف
-
استنشق رائحة البن المطحون.
-
دوّن ملاحظات عن قوة وجودة الروائح (زهري، فاكهي، ترابي…).
3. إضافة الماء
-
صب الماء الساخن 93°م مباشرة فوق البن.
-
املأ الوعاء حتى الحافة.
-
ابدأ المؤقّت 4 دقائق.
4. كسر القشرة (بعد 4 دقائق)
-
حرك السطح برفق بالملعقة.
-
استنشق الروائح المنبعثة بعمق.
-
اشطف الملعقة بعد كل عينة.
5. إزالة القشرة
-
تخلّص من الطبقة الطافية من البن والرغوة.
-
اترك السطح نظيفًا للتذوّق.
6. التذوّق
-
تذوّق في مراحل حرارية مختلفة:
-
ساخن (70–60°م): يبرز الحموضة والتوازن.
-
دافئ (50–40°م): يوضح التعقيد والعمق.
-
بارد (30–25°م): يكشف عن الحلاوة وخاتمة المذاق.
-
ويُفضَّل البصق لتجنّب إنهاك الحواس من الكافيين.
معايير التقييم
-
العطر/الرائحة (0–10): جاف ورطب.
-
النكهة (0–10): الانطباع العام.
-
خاتمة المذاق (0–10): الجودة والاستمرارية.
-
الحموضة (0–10): الحيوية والنقاء.
-
القوام (0–10): الوزن والملمس.
-
التوازن (0–10): الانسجام بين العناصر.
-
التجانس (0–10): ثبات النتائج بين الأكواب.
-
النقاء (0–10): غياب العيوب.
-
الحلاوة (0–10): الحلاوة الطبيعية.
-
التقييم العام (0–10): الانطباع الكلي.
سُلّم التقييم (SCA):
-
90–100: استثنائي (درجة المسابقات).
-
85–89.99: ممتاز (مختصة).
-
80–84.99: جيد جدًا (مختصة).
-
75–79.99: مقبول لكن أقل من المختصة.
-
أقل من 75: تجاري.
العيوب الشائعة
-
ترابي/عفن – من تجفيف أو تخزين سيئ.
-
خشبي/ورقي – حبوب قديمة أو مؤكسدة.
-
حامض/مخمَّر – نتيجة تخمير زائد أو تحميص ناقص.
-
قابض – جفاف وملمس خشن.
-
فينولي – مذاق دوائي أو كيماوي.
ممارسات متقدمة
-
المثلثية (Triangulation): تحديد الكوب المختلف بين ثلاثة.
-
التذوّق الأعمى: إزالة التحيّز بعدم معرفة الأصل.
-
التذوّق المقارن: مقارنة عينات من أصول أو معالجات مختلفة.
-
جلسات المعايرة: توحيد نتائج مجموعة من المتذوّقين.
الاستخدامات المهنية
-
ضبط الجودة: مراقبة التحميص ورصد العيوب.
-
التجارة: تحديد الأسعار وجودة العقود.
-
المسابقات: مثل كأس التميّز واختبارات Q Grader.
تطوير المهارة
-
التذوّق المستمر لبناء ذاكرة حسية.
-
استخدام أطقم النكهات للتدريب.
-
المشاركة في جلسات جماعية للمعايرة.
-
التوثيق الدقيق للملاحظات.
مستقبل التذوّق
تدخل التكنولوجيا لتدعم الممارسة التقليدية:
-
تطبيقات رقمية لتسجيل النتائج وتحليلها.
-
التحليل الطيفي والكيميائي لرصد العيوب.
-
جلسات افتراضية عن بُعد.
-
الذكاء الاصطناعي للتعرّف على الأنماط.
لكن تبقى الحواس البشرية العنصر الذي لا غنى عنه. فالتذوّق في جوهره طقس يربط بين المزارع والمحمِّص والمستهلك.
الخاتمة
يمثل تذوّق القهوة مزيجًا بين العلم والفن. انطلق من اليمن في القرن الخامس عشر، وتطوّر عبر القرون ليصبح اليوم المعيار العالمي لتقييم القهوة.
سواءً كنت محترفًا تبحث عن أدق التفاصيل، أو هاويًا يريد أن يغوص أعمق في عالم القهوة، فإن التذوّق هو بوابتك لفهم هذا المشروب المذهل.
كل رشفة تحمل قصة، ومن خلال التذوّق تصبح أنت الراوي.