الكرامة قبل النكهة.. المعيار الأول في القهوة ليس في الفنجان
يحرص عالم القهوة على أدق التفاصيل: الغرامات محسوبة، والثواني مضبوطة، وحرارة الماء مقاسة بالدرجات، وتقييمات النكهة تُسجَّل حتى الفواصل العشرية. غير أن هناك معياراً أساسياً يُغفل غالباً، وهو المعيار الأول والأهم: الكرامة.
فكوب جيشا بتسعين نقطة قد يأتي من مزارع ينام جائعاً لسداد ديونه. وبطل فن اللاتيه قد يعود من منصة التتويج إلى راتب لا يغطي الإيجار. ومُقيّم Q قد يقضي سنوات في معايرة النكهات بينما يُحظر عليه مساءلة المؤسسة التي تتحكم في ترخيصه. هذه ليست قصصاً نظرية، بل وقائع يعيشها أناس حقيقيون.
في كولومبيا، أنتج مزارع دفعة صغيرة بيعت بأكثر من 40 دولاراً للكيلوغرام، وأشاد المشترون بتعقيدها الزهري. لكن الحقيقة أن هذا السعر لم يشمل إلا بضع عشرات من الكيلوغرامات من أصل أطنان من المحصول. أما الباقي فقد بيع بسعر السوق العالمي (C) الذي يدور حول 9 دولارات للكيلوغرام. وبعد دفع أجور العمال وفواتير الأسمدة وأقساط القروض وتكاليف المعالجة والنقل وهوامش المصدرين، لم يصل إلى بيته سوى القليل. وعندما احتاجت ابنته لعلاج عاجل، مسحت فاتورة واحدة موسم عمل كامل. إنها ليست قصة ازدهار، بل هشاشة متنكرة في ثوب التقدّم.
وفي مزرعة أخرى، تكافح سيدة تدير أرضاً واسعة وتعتبر عمالها الدائمين بمثابة عائلتها. تستثمر في آلات جديدة، وتجرب طرق تخمير مبتكرة، وتزرع جيشا بآخر مدخراتها. لكن الأرباح لا تأتي، والديون تتراكم عاماً بعد عام. حتى مع ارتفاع الأسعار، لا تتحسن أوضاعها. والنتيجة: قلق واكتئاب وعزلة، لقائدة مجتمعية تحولت إلى سجينة لديونها، تبحث عن مخرج ولا تجده.
وفي أوروبا، تعمل باريستا شابة في مقهى “مختص” براتب لا يتجاوز الحد الأدنى. تقضي استراحتها في البحث عن أحذية مستعملة على الإنترنت، بينما يلتقط الزبائن صور “الفلات وايت” لنشرها على إنستغرام. تسأل نفسها كم ستصمد قبل أن يحرقها الإرهاق فتغادر المهنة نهائياً.
حتى البطولات لا تمنح أصحابها كرامة. فبطلة وطنية تأهلت للمنافسة على المسرح العالمي، لكنها لم تحصل إلا على دعم بالكاد يغطي تذاكر السفر وفندقاً متواضعاً. أما القهوة المطلوبة للتدريب والمدرّب الذي يصقل العرض، فهما ترف خارج قدرتها. الرعايات ذهبت إلى شاشات مضيئة وحفلات عشاء فاخرة وربما جيوب خاصة. أما البطلة نفسها فبقي راتبها كأي باريستا آخر.
إن وزن القهوة لا يُقاس بالأكياس فقط. إنه يحمل ظهوراً منحنية، وساعات منهكة، وحيوات مثقلة. لذلك يجب أن تكون الكرامة هي المعيار الأول، قبل النكهة، قبل النقاط، وقبل الربح.
خذ مثالاً آخر: شاب في بريطانيا يحلم بمحمصة تخصه. يعمل حالياً في محمصة صغيرة ويتقاضى أجراً عادلاً، لكنه يدرك أن عقداً من الادخار لن يكفي لشراء آلة تحميص. يستدين من والده، يشتري محمصة مستعملة، ويملأها ببضع أكياس من قهوة متواضعة، ثم ينفق ماله على معرض تجاري. متجره الإلكتروني يبيع خمسة أكياس في الأسبوع بالكاد. يحتاج إلى استشارة تجارية، لكن لا يجد من يرشده. يحتاج إلى زبائن، لكن لا يملك ميزانية للتسويق. كل شهر ينزف حلمه أكثر. هل يبيع محمصته وينهي المغامرة؟
النكهات تُخفي هذه الحقائق القاسية. نحن نتعلم الحديث عن التوت الأزرق والياسمين والتفاح الأحمر، لكننا لا نتحدث عن الإرهاق والديون والخوف. هذا ما يمكن تسميته بـ غسل النقاط: حين تتحول التقييمات والأوصاف إلى أقنعة تخفي حياة مثقلة بالمعاناة.
في القهوة الأفضل، نرفض هذا النهج. بوصلتنا مختلفة: الكرامة أولاً. الحق في الراحة بلا ذنب، في دفع الإيجار بلا خوف، في التعبير بلا عقوبة، وفي تخيل مستقبل بلا خجل. عندها فقط تكتسب النكهة معناها.
هذه ليست صدقة ولا “مسؤولية اجتماعية”. إنها بقاء وعدالة.
وفي التطبيق العملي:
على المشترين أن يختاروا عقوداً تضمن دخلاً ثابتاً، لا مكافآت مضاربة.
على المحامص أن تقلل من إنفاقها على التسويق لترفع أجور الباريستا.
على المدربين أن يفتحوا صفوفهم لحوار نقدي حتى لو هزّ الهياكل القديمة.
وعلى المستهلكين أن يسألوا المقاهي: ليس فقط “ما النكهة؟” بل “كيف يُعامل من يقف وراء هذه القهوة؟”
الكرامة ليست إضافة، بل أساس. من دونها لا تعني النقاط ولا الملصقات شيئاً. فالقهوة ليست مطالبة ببلوغ مئة نقطة، بل بتلبية احتياجات من يزرعها ويحمصها ويعدّها ويشربها. نظام لا يضمن الكرامة ليس “مختصاً”، بل استغلالاً مقنّعاً.
وفي المرة القادمة التي ترفع فيها فنجانك، توقّف واسأل نفسك: هل لهذا الفنجان طعم الحرية، أم أنه يحمل في طياته فاتورة غير مدفوعة لآخر؟