جيمس هوفمان.. كيف تحوّل من كارِه للقهوة إلى أحد أبرز رموزها في العالم؟
دبي — قهوة ورلد
نشرت “فايننشال تايمز ” تحقيقًا موسعًا يكشف مسيرة جيمس هوفمان، الذي بدأ حياته المهنية وهو يكره القهوة، قبل أن يصبح أحد أبرز رموزها العالميين وصوتًا مؤثرًا في حركة القهوة المختصة. التقرير يروي تفاصيل رحلته من بدايات مترددة إلى أن أصبح نجمًا عالميًا يتابعه الملايين، وصاحب تأثير عميق على ثقافة القهوة الحديثة.
من الكراهية إلى الشغف
لم يكن هوفمان في شبابه محبًا للقهوة، بل على العكس كان يصفها بالمشروب غير المرغوب. عمل بدايةً كموظف في كازينو بمدينة ليدز قبل أن ينتقل إلى لندن ليعمل مع شركات آلات الإسبريسو مثل «غاجيا» و«لا سباتسيالي». هناك، وأثناء فترات الفراغ، بدأ يجرّب آلات التحضير ويتأمل كيف تؤثر التعديلات الصغيرة في الطحن أو الضغط على الطعم. لم تعجبه النكهات آنذاك، لكنه اكتشف أن بعض الأكواب كانت “أقل سوءًا” من غيرها، وهذه الملاحظة دفعت فضوله لاكتشاف أسرار القهوة.
في عام 2005 تذوّق للمرة الأولى قهوة كينية من مزرعة صغيرة. كانت النكهة مختلفة كليًا: مذاق يشبه عصير الكشمش الأسود. هذه التجربة كانت صادمة، إذ جعلته يدرك أن القهوة ليست مجرد مشروب مُرّ، بل عالم كامل من النكهات. ومنذ تلك اللحظة بدأ اهتمامه يتحول إلى شغف. بعد سلسلة من المحاولات في البطولات المحلية، وصل إلى بطولة العالم للباريستا في طوكيو 2007، وفاز باللقب العالمي. هذا الفوز لم يمنحه شهرة فحسب، بل فتح له الطريق ليكون مرجعًا في القهوة المختصة.
بعدها بعام، أسس مع خبيرة التذوق أنيت مولدفار محمصة «سكوير مايل كوفي روسترز» في لندن، التي ساعدت على تغيير المشهد البريطاني. لم تعد القهوة مجرد سلعة صناعية، بل أصبحت منتجًا حرفيًا تُذكر معه أسماء المزارع والمرتفعات وطريقة المعالجة. هنا برز دور هوفمان في ربط قصته بالموجات التي شكّلت تاريخ القهوة: الموجة الأولى التي جعلت القهوة مشروبًا تجاريًا واسع الانتشار، والموجة الثانية التي أطلقتها سلاسل مثل ستاربكس، والموجة الثالثة التي حولت القهوة إلى منتج حرفي راقٍ مثل النبيذ، أما الموجة الرابعة — التي لا تزال موضع نقاش — فيراها كثيرون في الاتجاه العلمي المستدام الذي يمثله هوفمان.
من بطل الباريستا إلى نجم يوتيوب
مع مرور الوقت، لم يكتفِ هوفمان بالمحامص أو البطولات. ففي 2016 أطلق قناته على يوتيوب، حيث بدأ بنشر مقاطع مبسطة عن القهوة. لكن مع جائحة كورونا عام 2020، حين حُبس الملايين في منازلهم واضطروا لتحضير مشروباتهم بأنفسهم، وجدوا في مقاطعه المصدر الأول للتعلم. كان يشرح بعناية، يختبر معدات مختلفة، وينفّذ تجارب غريبة مثل تذوق قهوة من ثلاثينيات القرن الماضي. فجأة، تحولت قناته إلى ظاهرة عالمية.
اليوم يتابعه أكثر من مليوني شخص، وتحقق قناته عوائد تصل إلى 200 ألف جنيه إسترليني سنويًا. لكن الأهم أن هوفمان أصبح المرجع الأبرز للهواة والمحترفين. قدرته على مخاطبة المبتدئ والخبير معًا هي سر نجاحه؛ فهو لا يسخر من مشروبات مثل الفرابتشينو، لكنه في الوقت نفسه يقود جمهوره بخطوات واثقة نحو عالم القهوة المختصة.
هوفمان اشتهر أيضًا بدقته العلمية. فقد أجرى فحوصات بالأشعة المقطعية لأقراص الإسبريسو ليدرس كثافتها، واستخدم أجهزة تحليل حجم الجزيئات، وخاض تجارب على الرغوة باستخدام إضافات غذائية صناعية. حتى فيديوهاته الساخرة بيوم كذبة أبريل، التي كان من المفترض أن تكون مجرد دعابة، قادته أحيانًا إلى اكتشافات عملية. هذه الهواية العلمية ألهمت آلاف المتابعين لتوثيق وصفاتهم عبر تطبيقات مثل BEANCONQUEROR، وتبادل النقاشات على منصات مثل «ريديت» و«ديسكورد» حول نسب المعادن المثلى في مياه التخمير.
شركات عالمية مثل «بريفيل» و«لا مارزوكو» التقطت هذا الاتجاه وبدأت بتصنيع معدات تستهدف ما يُعرف بـ «الباريستا المنزلي» أو الـ«بروسيومر» — الهواة الذين يستثمرون في معدات احترافية. وهكذا أصبح تأثير هوفمان يتجاوز الإلهام الفردي إلى دفع صناعة كاملة إلى التوسع.
التحديات والرسالة المستقبلية
رغم نجاحاته، يرى هوفمان أن القهوة تواجه مستقبلًا مقلقًا. يذكّر بتاريخ مقاهي لندن في القرن السابع عشر التي ازدهرت سريعًا ثم اختفت. اليوم، تغيّر المناخ يهدد الأراضي الصالحة لزراعة الأرابيكا، وتكاليف الإنتاج المتزايدة قد تدفع المزارعين إلى استبدالها بمحاصيل أكثر ربحية مثل الأفوكادو أو المكاديميا. وإذا لم تُرفع القيمة المدفوعة للقهوة، فقد يخسر العالم جزءًا من تنوعه البنّي.
هوفمان يرى أن الحل يكمن في وعي المستهلك، وأن يدفع ثمنًا عادلًا يضمن استمرار المزارعين. لذلك يعمل على إصدار الطبعة الثالثة من كتابه المرجعي «أطلس القهوة العالمي»، ليواصل مهمته في تثقيف الناس ورفع تقديرهم لهذا المشروب.
القصة كلها تحمل مفارقة لافتة: من شاب يكره القهوة إلى رمز عالمي يغيّر طريقة تناولها وفهمها. لم يكن هدفه يومًا أن يكون «نبيًّا» للقهوة، لكنه أصبح بالفعل مرجعًا رئيسيًا في عالمها. وبفضل توازنه بين الانفتاح على الأذواق المختلفة والالتزام بالجودة، استطاع أن يقنع الملايين بخوض رحلة من البن التجاري الرخيص إلى القهوة المختصة ذات القيمة.
اليوم يوصف هوفمان بأنه أيقونة لعصر جديد من القهوة، حيث تلتقي الحِرفة بالعلم والثقافة المجتمعية. سواء عبر محمصته أو قناته أو كتبه، يواصل مهمته لإبقاء القهوة حية كعلم وفن وتجربة مشتركة للأجيال القادمة. إنها رحلة غير متوقعة بدأت بالرفض والنفور، لكنها انتهت بأن يصبح جيمس هوفمان واحدًا من أهم الأصوات التي تعرّف العالم بالقهوة وتدافع عن مستقبلها.