المقاهي في السعودية.. من «الزهور» إلى صناعة بمليارات الريالات في ظل رؤية 2030
دبي – 22 أغسطس 2025 (قهوة ورلد) – لم تعد القهوة في السعودية مجرد مشروب يرافق الجلسات الاجتماعية أو طقسًا صباحيًا تقليديًا، بل تحولت إلى صناعة متنامية تسير بخطى واضحة ضمن أهداف رؤية المملكة 2030. الأرقام تكشف أن سوق القهوة المحلي قدّر في 2024 بما بين 5 و7 مليارات ريال، مع معدل نمو سنوي يتجاوز 5%، بينما يستهلك السعوديون نحو 80 ألف طن من البن سنويًا، أي ما يعادل 36.5 مليون كوب يوميًا. ووفقًا لصحيفة الاقتصادية، فإن هذا القطاع أصبح من أبرز مكونات سوق خدمات الطعام الذي تبلغ قيمته 17 مليار ريال.
تعود أولى تجارب المقاهي الحديثة في السعودية إلى منتصف القرن الماضي، حين افتُتح “مقهى الزهور” في الرياض عام 1954. ورغم أن التجربة لم تأخذ حينها انتشارًا واسعًا، فإن المقاهي الشعبية التي أسسها يمنيون لعبت دورًا بارزًا، إذ جمعت بين القهوة والشاي والشيشة والمأكولات. ومع الستينيات والسبعينيات، شهدت هذه الفضاءات انتشارًا تدريجيًا، لكن التغيرات الاجتماعية في الثمانينيات قلصت من وجودها وحدّت من نموها.
مع مطلع الألفية الجديدة، ظهرت موجة جديدة تمثلت في “مقاهي الإنترنت”، التي سرعان ما تحولت إلى فضاءات شبابية عصرية. وبفضل التركيبة السكانية التي يشكل الشباب 70% منها، وجد هذا النموذج الجديد قاعدة جماهيرية واسعة، ليمهّد الطريق لانتشار المقاهي بشكلها الحديث الذي نراه اليوم في مختلف المدن السعودية.
القهوة ورؤية 2030
في إطار رؤية المملكة 2030، لم يعد يُنظر إلى القهوة على أنها منتج زراعي أو نشاط تجاري فحسب، بل باعتبارها عنصرًا من عناصر الهوية الثقافية ووسيلة للتنوع الاقتصادي. ففي عام 2022، أطلقت وزارة الثقافة مبادرة “عام القهوة السعودية“، وجرى اعتماد المسمى الجديد “القهوة السعودية” بدلًا من “القهوة العربية” في قوائم المطاعم والمقاهي والمتاجر، لتأكيد خصوصية المنتج الوطني وتعزيز حضوره على الساحة العالمية.
هذه الخطوة لم تكن شكلية، بل ترافقت مع برامج للتعريف بالقهوة السعودية وإقامة مهرجانات وفعاليات داخل المملكة وخارجها، ما جعلها وسيلة من وسائل القوة الناعمة التي تقدم من خلالها المملكة هويتها الثقافية للعالم.
عام 2022، أعلن صندوق الاستثمارات العامة إطلاق “الشركة السعودية للقهوة” باستثمار يبلغ 1.2 مليار ريال على مدى عشر سنوات، بهدف تطوير صناعة متكاملة تمتد من المزرعة إلى الكوب. وتعمل الشركة على دعم المزارعين في مناطق الجنوب، خصوصًا جازان وعسير والباحة، حيث يُزرع البن الخولاني الشهير.
الخطط الموضوعة تتضمن زراعة 5 ملايين شجرة بن بحلول 2030 لرفع الإنتاج المحلي من 800 طن سنويًا إلى أكثر من 10 آلاف طن. كما يجري العمل على إنشاء مصنع متكامل في جازان بطاقة إنتاجية تصل إلى 27 ألف طن سنويًا، منها 9 آلاف طن محمصة، مع قابلية مضاعفة القدرة في المستقبل. المصنع يُتوقع أن يكون نقطة تحول استراتيجية، ليس فقط لتغطية الطلب المحلي، بل للتوسع نحو التصدير وجعل السعودية لاعبًا رئيسيًا في سوق القهوة العالمية.
الأرقام تشير إلى أن نشاط المقاهي في المملكة يشكل 16% من إجمالي سوق خدمات الطعام. وقد بلغ عدد السجلات التجارية لنشاط “كوفي شوب” 61 ألف سجل حتى منتصف 2025، بينها 27 ألفًا للمقاهي الشعبية. هذه الأرقام تعكس قوة الطلب المحلي واتساع القاعدة الاستهلاكية.
على مستوى العلامات التجارية، تتصدر سلسلة “بارنز” المشهد بأكثر من 800 فرع، تليها “دانكن” بأكثر من 600 فرع، ثم “ستاربكس” بما يزيد على 450 فرعًا. في المقابل، يواصل “كيان كافيه” توسعاته بأكثر من 270 فرعًا، و”عنوان القهوة” بـ234 فرعًا، بينما يحتفظ “د. كيف” بأكثر من 100 فرع. هذا التوزيع يكشف عن مشهد تنافسي متنوع بين علامات محلية راسخة وعلامات عالمية ذات حضور قوي.
بين التاريخ والواقع الجديد
لطالما ارتبطت المقاهي عبر التاريخ بالثقافة والفكر؛ ففي إسطنبول افتتح أول مقهى عام 1475، وفي القاهرة كان مقهى الفيشاوي ملتقى للأدباء والمفكرين، بينما لعبت المقاهي في أوروبا دورًا سياسيًا واجتماعيًا بارزًا. اليوم، تستعيد المقاهي في السعودية بعضًا من هذا الدور، إذ لم تعد مجرد أماكن للترفيه، بل تحولت إلى منصات لاحتضان الفعاليات الثقافية والأدبية والفنية، في مشهد يتماشى مع التحولات الاجتماعية والثقافية التي تشهدها المملكة.
القهوة التي وُصفت طويلًا بأنها “مشروب المزاج” لم تعد مجرد لحظة شخصية للتأمل أو الاسترخاء، بل أصبحت في السعودية صناعة بمليارات الريالات مدعومة برؤية واستثمار. بين فناجين “القهوة السعودية” التي باتت عنوانًا للهوية، ومزارع البن التي تمتد جذورها جنوب المملكة، والمقاهي التي تنتشر في كل مدينة، يكتمل مشهد صناعة متكاملة تتجه لتصبح إحدى ركائز الاقتصاد غير النفطي.
وبين الماضي الذي بدأ مع “مقهى الزهور”، والحاضر الذي تشكله شركات عملاقة وخطط استثمارية بعيدة المدى، يبدو أن مستقبل القهوة في السعودية يتجاوز حدود المزاج ليصبح جزءًا من مشروع اقتصادي وثقافي يقوده المجتمع ويعززه الاستثمار.