A traditional Viennese café with marble columns, red velvet chairs, and newspapers on wooden stands — symbolizing Vienna’s timeless coffee culture.

قواعد غير مكتوبة في مقاهي فيينا

في المدينة التي حوّلت القهوة إلى فن، الصبر هو أول دروسها

دبي – قهوة ورلد

عند التاسعة صباحًا، تتسلّل أشعة الشمس إلى القاعة المهيبة في مقهى سنترال، أحد أشهر مقاهي فيينا. الأعمدة الرخامية تلمع تحت الضوء، وأصوات الصحف تختلط برنين فناجين البورسلان. يتقدّم سائح أميركي نحو المنضدة، يحمل هاتفه بيده، ويطلب فنجان “قهوة” ليأخذه معه. على بُعد خطوات قليلة، يجلس رجل فييني مسنّ على مقعده المخملي الأحمر، يفتح صحيفته، ويبدأ طقسه الصباحي مع كوب من الـ«ميلانج».

في تلك اللحظة، يظهر الفارق بين الزائر والمقيم: ثقافة المقاهي في فيينا ليست مكانًا لشرب القهوة فحسب، بل مساحة للبطء الجميل، حيث لا يُحتسَى الكوب بقدر ما يُعاش، وحيث التسرّع لا يُعد قلة تهذيب فقط، بل تفويتًا للجوهر الحقيقي للتجربة.

من اليمن إلى الدانوب: حكاية حضارة قهوة

تبدأ قصة المقاهي الفيينية من بعيد، من جبال اليمن العالية حيث زُرعت القهوة أول مرة، ومن ميناء المخا الذي انطلقت منه حبوبها نحو العالم. عبر التجار العثمانيين وصلت القهوة إلى إسطنبول، ثم إلى أوروبا، حيث تحوّلت إلى رمزٍ للذوق والاحتفاء بالحوار.

وفي عام 1683، حين انتهى الحصار العثماني على فيينا، تُروى حكاية أن المدينة وجدت بين متروكات الجنود العثمانيين أكياسًا من البن. ومن تلك البذور ولدت ثقافة جديدة تمزج بين ضيافة العرب، وطقوس العثمانيين، وفكر الأوروبيين.

هكذا تحوّلت المقاهي الفيينية إلى مؤسسات اجتماعية فريدة — أماكن تجمع بين الفكر والهدوء، بين العزلة والحوار.

وفي القرن التاسع عشر، أصبحت هذه المقاهي صالونات فكرية حيّة. جلس فيها الشعراء والفلاسفة والعلماء؛ كتب فرويد ملاحظاته في مقهى «لانتدمان»، واعتبر الكاتب شتيفان تسفايغ المقاهي “نوادي ديمقراطية مفتوحة للجميع بثمن فنجان قهوة واحد”. فهنا لا تُقدَّم القهوة كسلعة، بل كفكرة.

حيث يُقدَّم الوقت كما تُقدَّم القهوة

من يخطو إلى مقهى فييني متوقعًا خدمة سريعة، يكون قد أساء فهم الفكرة. فكل مقهى من المقاهي السبعة عشر المسجلة لدى اليونسكو يعمل بإيقاعٍ خاصّ صُمم منذ أكثر من قرنين.

النُدُل بزيّهم الأسود الأنيق يتحركون ببطء متعمّد لا يعبّر عن تقصير، بل عن احترام للوقت والمكان.

تقول ماريا شنايدر، وهي نادلة في مقهى سنترال منذ 28 عامًا:

“أستطيع خلال دقيقتين أن أميّز السائح من ابن المدينة؛ السائح ينظر إلى ساعته منتظرًا القهوة، أما الفيينّي فيعلم أنها ستأتي حين تكون جاهزة.”

ذلك الانتظار ليس بطئًا في الخدمة، بل جزء من الطقس. فالتأنّي هو فن من فنون الاحترام. حتى التفاعل المحدود من النادل ليس برودًا، بل لياقة مهنيّة.

يقول توماس فوغل من مقهى «سبرل»: “الأميركيون يحبون الابتسامات والمجاملة. نحن نقدّم خدمة مثالية بلا تكلّف. أنا لست صديق الزبون، بل محترف يؤدي عمله بإتقان.”

في المقاهي الفيينية، النادل ليس خادمًا، بل قائد أوركسترا يُنظم إيقاع المكان.

سبع قواعد غير مكتوبة يجب أن تعرفها

ثقافة المقاهي في فيينا محكومة بعادات دقيقة لا تُدرّس في الكتب، بل تُكتسب بالملاحظة والتجربة. إليك القواعد السبع التي تفرّق بين العابر والمقيم:

لا تستعجل قهوتك. الزمن مكوّن أساسي في كل فنجان.

لا تقل “قهوة” فقط. استخدم الاسم الصحيح: «ميلانج» أو «أينشبينر».

لا تطلب من المنضدة. الخدمة تأتيك إلى الطاولة.

اخفض صوتك. الصمت له مكانة مساوية للكلام.

رافق قهوتك بحلوى. قطعة «زاخرتورتة» جزء من الطقس لا ترف.

اطلب الفاتورة بنفسك. قل: «دارف إيش بِتّه تْسالن؟» واترك الإكرامية نقدًا على الصحن بنسبة 10–15%.

ابقَ. لا تغادر سريعًا، فالمغزى في البقاء لا في الانتهاء.

مرآة ثقافية في فنجان

تُظهر استطلاعات أجريت في المقاهي الفيينية أن 74% من السياح يحاولون الطلب عند المنضدة، و61% يطلبون “قهوة” دون تحديد النوع، و68% يغادرون خلال نصف ساعة — بينما لا يفعل ذلك سوى 12% من السكان المحليين.

أما الفيينّي العادي، فيمضي 87 دقيقة في المقهى، يقرأ الصحف ويتأمل.

في مقهى سبرل الذي أُسس عام 1880، لا تزال أكثر من اثنتي عشرة صحيفة تُعلّق على رفوف خشبية. هذا المشهد ليس استعراضًا للماضي، بل استمرار لتقليدٍ حيّ.

يقول كارل فيبر، صاحب المقهى منذ عام 1998: “نحن لا نشرب القهوة لنستيقظ، بل لنكون مع الناس… أو مع أنفسنا.”

تلك الجملة تلخّص روح فيينا: فالمقهى مساحة يتقاطع فيها الفكر والعزلة، والهدوء والحوار، في انسجامٍ لا يشبه أي مكان آخر.

لماذا لا تزال مقاهي فيينا خالدة؟

في مدنٍ أخرى، تتخذ المقاهي وجوهًا مختلفة — فالمقهى الإيطالي يحتفي بالسرعة، والفرنسي بالمجالسة، والمجلس العربي بالضيافة. أما فيينا فاختارت فلسفة أخرى: القهوة كفن للتأمل والزمن كطقس يومي.

إن احتساء القهوة في فيينا يشبه السفر عبر التاريخ، من جبال اليمن إلى موانئ العثمانيين وصولًا إلى قلب أوروبا.

وفي عصرٍ يتسابق فيه الناس على الوقت، تذكّر المقاهي الفيينية زائريها أن التأمل نوع من العمل، وأن البطء شكل من أشكال الوعي.

درس في الاختفاء

بعد ثلاثة أيام من زيارته الأولى، يعود السائح الأميركي إلى مقهى سنترال. هذه المرة، يطلب قائلاً: «آينَن ميلانج، بِتّه.» يخاطب النادل بلقب «هير أوبر»، يفتح صحيفة فينر تسايتونغ، يضع هاتفه جانبًا، ولا ينظر إلى الساعة.

يهزّ النادل رأسه بابتسامة خفيفة. لقد فهم الزائر الدرس — أن تصبح غير مرئي بين أهل المدينة، هو أسمى درجات الاحترام في ثقافة المقاهي الفيينية.

Spread the love
نشر في :
WhatsApp Icon