صناعة القهوة العالمية تواجه أزمة متفاقمة وسط تصاعد الطلب وتراجع الإنتاج
تواجه صناعة القهوة العالمية لحظة حرجة مع استمرار ارتفاع الاستهلاك العالمي مقابل تراجع الإنتاج، ما يهدد بتفاقم اختلالات هيكلية في واحدة من أكثر السلع الزراعية تداولًا في العالم. وأظهرت تحليلات حديثة نشرها إنيو كانترجياني، المدير العام لأكاديمية القهوة في سويسرا، أن الفجوة بين ما يستهلكه العالم من القهوة وما يتم إنتاجه فعليًا تتسع بشكل ينذر بالخطر.
وأشار كانترجياني، عبر سلسلة من المنشورات المتخصصة على حسابه في منصة “لينكد إن”، إلى أن الاستهلاك العالمي يشهد نموًا سنويًا بمعدل يقارب 2%، مدفوعًا بازدهار ثقافة القهوة المختصة، ونمو الطبقات المتوسطة في الأسواق الناشئة مثل الصين والهند، وتغير أنماط الحياة الحضرية. في المقابل، يعاني الإنتاج من تقلبات متزايدة وضغوط بيئية واقتصادية.
الإنتاج تحت وطأة التحديات المناخية والهيكلية
حدد كانترجياني عدة عوامل رئيسية تؤثر على قدرة الدول المنتجة على تلبية الطلب، أبرزها:
-
اضطرابات مناخية تشمل الجفاف واختلال أنماط الأمطار في بلدان رئيسية مثل البرازيل وفيتنام
-
تقدم أعمار المزارعين وغياب جيل شاب يرث هذه المهنة في العديد من المناطق الريفية
-
ضعف الحوافز وتراجع العوائد الاقتصادية للمزارعين
-
أمراض زراعية مثل صدأ أوراق القهوة التي ما تزال تؤثر سلبًا على المحاصيل
وأضاف أن العوامل اللوجستية والتشريعية تفاقم من الضغوط، مثل مشاكل الشحن في قناة السويس، وزيادة الطلب من الصين والهند، ونقص العمالة بسبب الهجرة من الريف إلى المدن أو القيود على الهجرة، فضلًا عن التشريعات البيئية الجديدة مثل قانون إزالة الغابات في الاتحاد الأوروبي، الذي يفرض التزامات صارمة على الدول المصدرة.
الصين كمؤشر على التحول في أنماط الاستهلاك
أوضح كانترجياني أن الصين تُعد نموذجًا بارزًا على اتساع رقعة الاستهلاك العالمي خارج الأسواق التقليدية. فقد ارتفع استهلاك القهوة في الصين بنسبة تقارب 150% خلال العقد الماضي، ليصل إلى نحو 6.3 ملايين كيس زنة 60 كغ في موسم 2024/2025.
ورغم هذا النمو السريع، لا يزال استهلاك الفرد في الصين منخفضًا مقارنة بالدول الغربية، مما يشير إلى إمكانيات نمو أكبر مستقبلًا. وتشير التقديرات إلى أن السوق الصيني للقهوة قد نما بنسبة 31% في عام 2021، مع توقعات بنمو سنوي مركب يبلغ 9.63% بين عامي 2022 و2025.
مؤشرات الأسواق المالية تؤكد حالة التوتر
في تحليله لحركة الأسواق، لفت كانترجياني إلى أهمية مؤشر العقود المفتوحة في سوق العقود الآجلة للقهوة، بوصفه أداة تعكس معنويات المستثمرين. ووفقًا لبيانات 18 مارس 2025، بلغ عدد العقود المفتوحة في بورصة العقود الآجلة لقهوة الأرابيكا 168,654 عقدًا، بزيادة طفيفة نسبتها 1.63% عن الأسبوع السابق، لكنها تمثل انخفاضًا سنويًا بنحو 21.89%.
وترافقت هذه المؤشرات مع أسعار تتراوح بين 3.80 و3.90 دولارات للرطل، بعد أن تجاوزت حاجز 4 دولارات في منتصف فبراير، وهو أعلى مستوى منذ عقود. ويرى كانترجياني أن هذا التباين بين الأسعار المرتفعة وتراجع العقود المفتوحة قد يشير إلى تغطية مراكز بيع سابقة دون دخول أموال جديدة، ما يعكس هشاشة في الزخم الصعودي للسوق.
مخزون القهوة المعتمد: مؤشر خفي لكنه حاسم
سلط كانترجياني الضوء أيضًا على تراجع مخزونات القهوة المعتمدة في مستودعات بورصة إنتركونتيننتال (ICE)، والتي تشمل مستودعات مرخصة في مدن مثل نيويورك وهامبورغ وبرشلونة. وتُعد هذه المخزونات معيارًا مرجعيًا للجودة ومؤشرًا لحالة العرض في السوق العالمية.
وحتى 30 يناير 2025، انخفضت مخزونات قهوة الأرابيكا المعتمدة بنحو 100 ألف كيس، لتصل إلى حوالي 900 ألف كيس فقط، وهو أدنى مستوى لها منذ عام 1999. كما ظلت مخزونات الروبوستا المعتمدة في لندن عند مستويات منخفضة مماثلة.
ويرجع هذا التراجع إلى عوامل متعددة، أبرزها موجات الجفاف في البرازيل، والتأخيرات اللوجستية، وتحويل العديد من دفعات القهوة عالية الجودة إلى أسواق القهوة المختصة بدلًا من بورصات السلع.
ووفقًا للتحليلات، هناك علاقة عكسية تقليدية بين مستوى المخزونات المعتمدة وأسعار العقود الآجلة، حيث يؤدي انخفاض المخزون غالبًا إلى ارتفاع الأسعار.
الأسعار المرتفعة أصبحت واقعًا دائمًا
استنادًا إلى البيانات والاتجاهات الحالية، يرى كانترجياني أن من غير المرجح عودة أسعار القهوة إلى المستويات المنخفضة التي سادت خلال جائحة كوفيد وما بعدها. ويتوقع أن تتراوح الأسعار خلال السنوات المقبلة بين 250 إلى 500 سنت أمريكي للرطل، ما سيؤثر على مختلف الأطراف في سلسلة التوريد.
-
بالنسبة للمزارعين: قد تمثل الأسعار المرتفعة فرصة لتعظيم العوائد، خصوصًا لمن يلبون معايير الجودة والاستدامة
-
بالنسبة للمستوردين والمضاربين: تبرز الحاجة إلى تتبع المخزونات ومؤشرات السوق بدقة لاتخاذ قرارات استراتيجية
-
بالنسبة للمحمصين والموزعين: قد يفرض الواقع الجديد تحديات على هوامش الأرباح ويستدعي إعادة التفكير في أساليب الشراء
-
بالنسبة للمستهلكين: من المتوقع أن تصبح الأسعار الأعلى والشفافية في سلاسل الإمداد جزءًا طبيعيًا من تجربة القهوة اليومية
مستقبل القهوة على المحك
تشير مجمل تحليلات كانترجياني إلى أن قطاع القهوة العالمي يواجه منظومة من الضغوط المتشابكة — مناخية، ديموغرافية، مالية وتشريعية — ما يتطلب يقظة استراتيجية وتعاونًا أكبر بين المنتجين والمستوردين والمستهلكين.
وأكد في ختام تحليلاته أن “مستقبل القهوة لا يتوقف فقط على كمية ما نشربه، بل على مدى إدارتنا الجيدة لما نزرعه، وحمايتنا له، واستثمارنا فيه”.