ارتشف، شاهد، تذوّق: كيف نصنع ذائقتنا عبر عدسة الثقافة البصرية
Image Credit- Albina Khamidullina

ارتشف، شاهد، تذوّق: كيف نصنع ذائقتنا عبر عدسة الثقافة البصرية

بقلم: ألبينا حميدولينا

في كل مهنة، هناك عناصر متشابكة تصنع النجاح: التعليم، الخبرة، الاجتهاد، حسن التواصل، وبناء العلاقات. ومع تطوّر بيئة العمل الحديثة، باتت المهارات الناعمة تحظى بتقدير أكبر، إلا أن جانبًا مهمًا ما زال بعيدًا عن الضوء، وهو ما يُعرف بـ”الثقافة البصرية”.

في اللغة الروسية، نستخدم كلمة “насмотренность” للدلالة على هذا المفهوم. وهي تعني ببساطة: تدريب العين على الجمال، والذوق، والرقي. تعني أن نغذّي حواسنا بالمشاهد، وننفتح على التجارب، ونلامس معايير الجمال والخدمة، لنفهم العالم من حولنا بعمق، ونطوّر ذائقتنا.

الذوق لا يُكتسب عشوائيًا، بل يتشكّل بفعل التعرّض المتكرر للجماليات، سواء في الفن أو الطعام أو التصميم أو حتى طريقة التقديم. وغالبًا ما يُوصف “صاحب الذوق” بأنه ذلك الشخص الذي رأى كثيرًا، جرّب كثيرًا، واختبر كثيرًا. وكل هذا يبدأ من نقطة واحدة: الثقافة البصرية.

لكن الغريب أن هذا المفهوم غالبًا ما يُحصر في مجالي الفن والموضة، بينما هو في جوهره أوسع بكثير. فهو يشمل الجو، الأسلوب، الخدمة، الفكرة، وحتى التفاصيل الخفية في أي مكان. وبصفتي أعمل في مجال الضيافة، وتحديدًا في صناعة القهوة، فإنني أعتمد كثيرًا على هذه الثقافة عندما أفكّر في طرق تقديم تجربة لا تُنسى لضيوفنا.

طبيعة عملي تدفعني لزيارة المقاهي في كل مكان، لرصد ما يُقدَّم، ولمعرفة ما إذا كنا نواكب التوقعات. لكن إن أردت أن أرتقي بما نقدّمه، فلا بد أن أتجاوز حدود “المقهى”. ولهذا أخصص وقتًا — في دبي أو في السفر — لزيارة الفنادق الفاخرة، المطاعم الراقية، المعارض الفنية، صالونات التجميل، المتاجر الرفيعة… وحتى المكتبات، وأكشاك الشوارع، وأسواق الملابس المستعملة. من أقصى الطيف إلى أقصاه.

هي ليست نزهة فقط، بل وسيلة للدراسة، لاكتشاف التفاصيل. كيف يُقدّم الطعام؟ كيف يُصبّ الشراب؟ ما شكل الصحون؟ هل نستلهم شيئًا منها؟ كيف يستقبلني الموظف؟ ماذا عن العطر في الأجواء؟ عن الإضاءة؟ عن الكرسي؟ عن العبارة المكتوبة قرب الباب؟ كلها إشارات بصرية تُسهم في خلق انطباع لا يُنسى.

أحيانًا، مجرد مرآة في دورة المياه أو ملصق ذكي على الجدار يُصبح محط تصوير ومشاركة على إنستغرام — وهكذا تنتشر هوية المكان. وأحيانًا، تكون حملة إعلانية من شركة طيران أمريكية، فأفكّر: هل يمكن إعادة تقديم هذه الفكرة في قالب يناسب مقهى؟ ولم لا؟

حتى إن كانت التجربة من قطاع مختلف أو بسعر يفوق ما نقدمه، إلا أن هذه المشاهدات تشكّل نظرتي، وتُعيد ترتيب أولوياتي. لأن الزبائن لا يقارنوننا بمقاهٍ فقط، بل بما يعيشونه يوميًا: منازلهم، أماكن مناسباتهم، مطاعمهم المفضلة، أو الفندق الذي قضوا فيه شهر العسل. فهل نرتقي لمستوى تلك الذكريات؟ هل نكون امتدادًا لها؟

الثقافة البصرية تتكوّن بمراكمة التجارب. وكلما وسّعنا الدائرة، وتجاوزنا مجالنا المعتاد، كانت أفكارنا أعمق وأكثر إشراقًا. وهذا لا يخصّ العاملين في التصميم أو التسويق فقط، بل يمتدّ لكل مَن يسعى للتميّز — في البرمجة، أو الإدارة، أو تطوير المنتجات، أو الضيافة.

وأؤمن أخيرًا أن هذه “الرحلات البصرية” يجب أن تُحتسب ضمن ميزانية الفريق. لأن من يرى جيدًا، يصنع جيدًا. أحيانًا، يكون تدريب العين في معرض فني عالمي. وأحيانًا، في كوب قهوة باهظ الثمن في بهو فندق، وأنت تتأمل كرسيًّا مخمليًّا بعينٍ ناقدة. ومن هناك، تولد أفضل الأفكار.

والأفكار الجميلة… لا نهاية لها.

Spread the love
نشر في :