في شوارع صنعاء القديمة، حيث تتعانق رائحة البُن المحمّص مع نسائم الفجر، نشأ عبد اللطيف الجرادي في بيئةٍ حملت بين طياتها عبق التاريخ وروح الكفاح. كانت طفولته مليئة بالحكايات عن اليمن السعيد، عن الأسواق التي تضج بالحياة، وعن جلسات الصباح التي لا تكتمل دون فنجان القهوة.
لم يكن عبد اللطيف ذلك الطفل الذي يحلم بوظيفة مكتبية هادئة، بل كان دائم البحث عن ذاته بين طيات الكتب وصفحات التاريخ، حيث كانت القهوة جزءًا من قصة بلاده التي لم تأخذ مكانتها المستحقة. رغم أن تخصصه الأكاديمي كان في الأدب الإنجليزي، إلا أن نداء القهوة اليمنية كان أقوى من أن يتجاهله، ليجد نفسه شغوفًا باستكشاف تاريخها العريق، والتعرف على خصائصها الفريدة التي جعلتها إحدى أهم السلع التي صدّرها اليمن للعالم.
قيم عائلية
منذ صغره، تعلّم عبد اللطيف أن العمل هو بوابة الاستقلالية. كان والده – رحمه الله – يحرص على غرس هذه القيم في أبنائه، فيكافئهم بعد إنجاز مهامهم اليومية، وهو ما جعله يدرك لاحقًا أن الجهد والمثابرة طريقان لا بد من السير فيهما للوصول إلى النجاح.
اعتاد عبد اللطيف على مساعدة والده وأفراد عائلته في أعمالهم اليومية، وكان يرى في هذا الأمر فرصة لصقل مهاراته واكتساب خبرات عملية وهو في سن مبكرة. لقد كان التفاعل اليومي مع البيئة التجارية، ومعايشة تفاصيل البيع والشراء، سببًا في تشكل وعيه الاقتصادي قبل أن يبدأ رحلته المهنية.
نقطة تحول
في عام 2016، بدأ عبد اللطيف يتعمّق في عالم القهوة بشكل أكبر، فانضم إلى برامج منظمة SMEPS، حيث تعرف على تفاصيل زراعة البن ومعالجته وتجارته. كانت هذه التجربة محطة فاصلة في مسيرته، إذ زوّدته بفهم أعمق لجودة القهوة وأهمية دعم المزارعين اليمنيين للحفاظ على هذا التراث العريق.
في عام 2017، تعرض عبد اللطيف لحدث غير متوقع، فقد راتبه كموظفٍ في إحدى المدارس، لكن بدلًا من أن يكون هذا الحدث نهاية مسيرته، اعتبره بداية جديدة. قرر التركيز كليًا على مشروعه في القهوة، وأسس “موكا روت”، الاسم الذي سيصبح لاحقًا أحد رموز تصدير القهوة اليمنية الفاخرة.
بحماسة المغامر، جمع عبد اللطيف مبلغ 3,500 دولار، واشترى به 60 كيلوغرامًا من أفخر أنواع القهوة اليمنية، وأرسلها إلى الخارج عبر صديقه الدكتور نادر، الذي أسس معه أول شركة لتصدير البن اليمني.
لكن الصدمة كانت أن الشحنة لم تبع كما توقع. أدرك حينها أن النجاح في سوق القهوة لا يقتصر على جودة المنتج، بل يشمل التغليف والتسويق والمعايير الدولية. بدلاً من أن تثبط عزيمته، اعتبر هذه التجربة درسًا قيّماً في كيفية الدخول إلى الأسواق العالمية.
لم يستسلم عبد اللطيف، فمع بداية الموسم التالي، حصل على أول عميل في الولايات المتحدة، وعندما أرسل له عينة، جاء الرد مفاجئًا: “لقد جربنا العديد من العينات من اليمن، لكن عينتك هي الأفضل من حيث الجودة وحفظ الرطوبة.” عندها، أيقن أن المثابرة والصبر هما مفتاحا النجاح.
بدأ عبد اللطيف في تحسين عملياته بشكل أكبر، فتعمّق في دراسة تقنيات المعالجة والتخمير المختلفة للقهوة، وعمل على تطوير أساليب التحميص الخاصة به. لم يكن هدفه فقط تصدير القهوة، بل أراد أن يروي قصة اليمن مع كل كوب يُشرب من قهوته.
القهوة اليمنية.. أكثر من تجارة
اليوم، يرى عبد اللطيف أن مشروعه ليس مجرد تجارة، بل هو رسالة لإعادة اليمن إلى مكانته الطبيعية في خارطة القهوة العالمية. فهو يدرك أن ميناء المخاء اليمني كان بوابة القهوة إلى العالم، وأن إعادة إحياء هذا التراث مسؤولية كبيرة.
عمل عبد اللطيف على بناء شراكات مع مزارعين محليين لدعمهم، وحرص على نقل المعرفة إليهم حول أساليب الإنتاج الحديثة، مع الحفاظ على الطرق التقليدية التي تمنح القهوة اليمنية نكهتها الفريدة. كما أنشأ مختبرات تذوق، وعمل على المشاركة في مزادات عالمية لتقديم القهوة اليمنية كمنتج فاخر قادر على المنافسة في الأسواق الدولية.
طموحات المستقبل
لكن طموحه لا يقف عند القهوة، فهو يحلم أيضًا بالمساهمة في مشاريع تنموية تعيد لليمن تألقه، مستلهمًا من مدن مثل الإسكندرية، التي يراها نموذجًا لما يمكن تحقيقه في بلاده.
يدرك عبد اللطيف أن دعم القهوة اليمنية لا يقتصر فقط على الإنتاج والتصدير، بل يمتد إلى خلق ثقافة استهلاك محلية تُقدّر جودة القهوة وتفخر بإرثها. لذا، بدأ في تنظيم ورش تدريبية لمحبي القهوة، وساهم في إنشاء محامص متخصصة داخل اليمن، لتكون حلقة الوصل بين المزارعين والأسواق العالمية.
ختاما
“النجاح يتطلب الإصرار. لا تتوقف عند أول عقبة، ولا تخشَ الفشل، فهو مجرد خطوة نحو النجاح. عليك أن تستمر في السعي والعمل الجاد، لأن الجهود الصادقة دائماً تؤتي ثمارها.” بهذه الكلمات، يختتم عبد اللطيف حديثه، وهو يعلم أن رحلته مع القهوة لم تنتهِ بعد، بل إنها بدأت للتو.
في كل مرة يُسكب فيها فنجان قهوة يمنية في أي ركن من العالم، يكون ذلك بمثابة شهادة على رحلة طويلة من الكفاح، يقودها أشخاص مثل عبد اللطيف الجرادي، الذين يؤمنون بأن القهوة ليست مجرد مشروب، بل هوية وتراث يجب الحفاظ عليه ونقله إلى الأجيال القادمة.