دبي – علي الزكري
من أزقة القدس القديمة، وتحديدًا من سوق خان الزيت العريق، بدأت عام 1921 حكاية قهوة أصبحت جزءًا من ذاكرة المدينة ورمزًا لأصالتها. هناك، أسس الجد أول محل ومحْمصة قهوة ليبدأ إرثًا عائليًا امتد عبر الأجيال، حافظ على الطابع التقليدي ونقله بروح الحداثة، حتى أصبح اسم «بن إزحيمان» مرادفًا للجودة والهوية الفلسطينية في فنجان كل بيت. اليوم، يقود محمود إزحيمان، حفيد المؤسس ومؤسس أول أكاديمية للقهوة المختصة في القدس، مسيرة عائلية تجمع بين التراث والمعرفة الحديثة، واضعًا العلم والتطوير في خدمة الإرث الفلسطيني، ومؤمنًا بأن القهوة ليست مجرد مشروب، بل هوية وثقافة تستحق أن تُروى للعالم.
في هذا الحوار الخاص مع قهوة ورلد، يتحدث محمود إزحيمان عن قصة عائلته مع القهوة التي تمتد لأكثر من قرن، وعن تحديات وتطلعات القهوة الفلسطينية، ورؤيته لمستقبل هذا القطاع في القدس والمنطقة العربية.
حدثنا عن تاريخ عائلتكم في تجارة القهوة، كيف كانت البداية، وما الذي يميز تجربتكم عن غيرها؟
بداية القصة تعود إلى جدي الذي أسس أول محل ومحْمصة قهوة في القدس القديمة، في سوق خان الزيت عام 1921. كانت القهوة في ذلك الوقت ليست مجرد مشروب، بل جزءًا من الحياة اليومية والهوية الثقافية للناس. ما ميّز تجربتنا هو أننا استطعنا الحفاظ على هذا التراث وتطويره عبر الأجيال، وبنينا علاقة ثقة قائمة على الجودة مع الزبائن. هذه الثقة تحولت إلى إرث داخل البيوت، وجعلت من «بن إزحيمان» علامة للجودة في فنجان كل بيت دون أن نفقد أصالتنا. اليوم، «بُن إزحيمان» أصبح اسمًا مرتبطًا بالقدس وتاريخها، وهذه الثقة التي بنيناها على مدار أكثر من قرن هي سر تميزنا.
كيف انتقل الشغف بالقهوة من جيل إلى آخر داخل العائلة حتى وصل إليكم؟
الشغف لم يكن تجارة أو مهنة فقط، بل كان أسلوب حياة. كنت أرى والدي وعمّي وأسمع دائمًا عن كيف كان أجدادي يتعاملون مع القهوة كشيء مقدس، بكل دقة وحب. هذا الحب انتقل إليّ بشكل طبيعي، ومع مرور الوقت طوّرت شغفي بالعلم والمعرفة من خلال الالتحاق بالبرامج والمناهج الدولية، والحصول على شهادات ودورات متخصصة. اليوم أعتبر نفسي حلقة جديدة في سلسلة طويلة من العائلة، لكن مع بصمة حديثة قائمة على العلم والابتكار.
بصفتك مؤسس أول أكاديمية للقهوة المختصة في القدس، كيف تصف وضع صناعة القهوة هناك اليوم؟
الوضع الحالي هو مزيج بين التحدي والفرصة. القدس وفلسطين تملكان إرثًا طويلًا مع القهوة، فهي جزء من الهوية الثقافية والاجتماعية. صناعة القهوة اليوم ما زالت ترتكز على القهوة العربية والتركية والإسبريسو بمختلف أنواعه، سواء كمشروب يومي أو كمنتج يُحضّر في البيت. هذه الأنماط التقليدية تمثل الغالبية العظمى من الاستهلاك وتشكل أساس المشهد القهوي المحلي. لكن القهوة المختصة بدأت تشق طريقها، وهناك فضول ووعي متنامٍ عند الشباب للتعرف على الجودة والمعايير العالمية، ما يمنحنا فرصة لبناء جيل جديد من المحترفين القادرين على رفع مستوى القطاع وخلق مجتمع قهوي أكثر وعيًا.
كيف أثرت الظروف الجيوسياسية والحرب على قطاع القهوة في القدس وفلسطين؟
الأوضاع السياسية والاقتصادية الصعبة أثرت بشكل مباشر، سواء من ناحية صعوبة الاستيراد، وارتفاع التكاليف، أو تراجع القوة الشرائية. لكن في المقابل، هذه الظروف عززت لدينا الإصرار على التمسك بثقافتنا وإثبات وجودنا من خلال القهوة. فهي لم تعد مجرد مشروب، بل رمز للصمود وكرم الضيافة. التمسك بعادات القهوة أصبح جزءًا من الحفاظ على الهوية.
ما مدى إقبال الناس في القدس على القهوة المختصة مقارنة بالتقليدية؟
القهوة التقليدية ما زالت تحتفظ بالحصة الأكبر، فهي جزء من الهوية القومية وعادات الضيافة. لكن الإقبال على القهوة المختصة يتزايد، خصوصًا بين الجيل الصاعد الباحث عن التجديد ومواكبة التطور. اليوم نرى مقاهي تحاول دخول سوق القهوة المختصة في القدس ورام الله وحتى المدن الصغيرة، وهذا الاتجاه بحد ذاته مؤشر على نمو ثقافة جديدة.
كيف ترى مستقبل القهوة المختصة في فلسطين؟
أنا متفائل جدًا. الطريق مليء بالتحديات، لكن المستقبل واعد. الفلسطيني ذواق بطبيعته ويملك حسًا مميزًا تجاه النكهات. بلادنا مليئة بالطاقات الشبابية، وإذا وفرنا لهم التدريب والدعم، سيخلقون مشهد قهوة مختصة يضاهي أي مكان في العالم. ربما النمو أبطأ من دول أخرى، لكن الاتجاه واضح وصاعد.
ما الدور الذي يمكن أن تلعبه الأكاديميات ومراكز التدريب في نشر ثقافة القهوة المختصة؟
الأكاديميات هي العمود الفقري لأي نهضة في هذا القطاع. من خلالها ننقل المعرفة ونبني المهارات ونخلق وعيًا حول الجودة والاستدامة. الأكاديمية ليست مجرد مكان للتدريب، بل منصة لتغيير الثقافة وبناء مجتمع قهوة محترف.
حدثنا عن زيارتك الأخيرة إلى دبي، وما الذي لفت انتباهك في مشهد القهوة هناك؟
الزيارة كانت بهدف استكمال متطلبات الترخيص من جمعية القهوة المختصة، وبناء جسور مع رواد القطاع. أكثر ما لفت انتباهي هو التنوع والانفتاح في مشهد القهوة في الإمارات، حيث تجتمع كل المدارس من المحامص الصغيرة إلى العلامات العالمية. المجتمع القهوي هناك يتميز بروح التعاون والمشاركة، ومستوى الاستثمار في الجودة والتجربة لدى المستهلك ملفت للنظر، وهذا ما نطمح لخلقه تدريجيًا لدى المستهلك الفلسطيني.
كيف تقيم سوق القهوة المختصة في الإمارات؟ وهل هناك فرص تعاون مستقبلية؟
السوق الإماراتي ناضج ومتنوع ويضم مستهلكين واعين يبحثون عن الجودة. هذا التنوع يشكل بيئة مثالية للتعاون، سواء أكاديميًا أو تجاريًا. نعمل على تسويق منتجات «بن إزحيمان» في الإمارات، والترويج لخط «Izpresso» المختص بخلطات الإسبريسو وكبسولات نسبريسو. كما نخطط لمشاريع تدريبية واستشارية في المنطقة، معتمدين على شراكات ذكية وتبادل خبرات.
ما طموحاتكم المستقبلية للأكاديمية والمشاريع القادمة؟
نطمح أن تصبح الأكاديمية مرجعًا وطنيًا ثم إقليميًا عربيًا في مجال القهوة المختصة، لتخريج خبراء قادرين على ترك بصمتهم في أي مكان. كما نسعى لتطوير مشاريع مرتبطة بالاستدامة والابتكار في القهوة ليكون لنا دور عالمي لا يقتصر على المحيط المحلي.
كيف تتخيلون صناعة القهوة في القدس خلال السنوات العشر القادمة؟
أتوقع أن تصبح أكثر نضجًا ووعيًا بالجودة والاستدامة. القهوة المختصة ستأخذ حصة أكبر، والمقاهي ستركز أكثر على التجربة الكاملة. أتمنى أن نرى مشهدًا قهويًا يعبر عن هويتنا، يجمع بين التراث والحداثة، ويصبح نموذجًا يحتذى به في المنطقة.
ما التحديات التي تواجهكم كونكم الأكاديمية الأولى في هذا المجال؟ وكيف يمكن التغلب عليها؟
من أبرز التحديات نشر المعلومة الصحيحة وإقناع المجتمع بأهمية الاستثمار في التعلم. لا يزال المجال جديدًا نسبيًا، والكثير من المعلومات المنتشرة غير دقيقة. الحل هو طرح دورات مدعومة بأسعار رمزية أو مجانية في البداية لجذب المهتمين وتعريفهم بالأسس الصحيحة، مما يخلق مجتمعًا قهويًا يدرك قيمة الحداثة حتى في أكثر المجالات ارتباطًا بالأصالة.