دراسة علمية جديدة تُغيّر المفاهيم: القهوة قد تحمي القلب من اضطراب نبضه
بحث سريري واسع يقلب نصائح الأطباء رأساً على عقب بشأن علاقة القهوة باضطراب القلب الأكثر شيوعاً في العالم
دبي – قهوة ورلد
لطالما سمع مرضى اضطرابات نبض القلب النصيحة ذاتها من الأطباء: تجنّبوا القهوة.
فالكافيين معروف بتأثيره المنشّط على الجهاز العصبي وزيادة ضربات القلب، ما جعل كثيرين يعتقدون أنه يفاقم مشكلة الرجفان الأذيني — أكثر اضطرابات نبض القلب شيوعاً في العالم.
لكن دراسة جديدة نُشرت في مجلة JAMA الطبية في 9 نوفمبر 2025، قلبت هذه الفكرة رأساً على عقب، بعدما أظهرت أن تناول القهوة باعتدال قد يكون مفيداً للقلب أكثر مما هو ضار.
فقد كشفت تجربة دي كاف (هل يؤدي الامتناع عن القهوة إلى تفادي الرجفان؟) أن شرب القهوة بانتظام يقلل احتمال عودة اضطراب نبض القلب بنسبة 39% مقارنةً بالامتناع التام عنها.
هذا الاكتشاف غير المتوقع قد يغيّر توصيات الأطباء في جميع أنحاء العالم، ويمنح القهوة مكانة جديدة كعنصر محتمل لدعم صحة القلب.
من الاعتقاد الشعبي إلى البرهان العلمي
يُصيب الرجفان الأذيني أكثر من 60 مليون شخص حول العالم، ويُعدّ من أبرز أسباب السكتة الدماغية وقصور القلب والوفاة المبكرة.
ونظراً لأن الكافيين يزيد من النشاط العصبي، فقد نصح الأطباء لعقودٍ طويلة مرضاهم بالابتعاد عن القهوة، ظنّاً أنها تثير اضطراب نبض القلب.
غير أن القهوة ليست مجرّد مادة منبّهة، بل مشروب طبيعي غنيّ بمئات المركّبات النشطة بيولوجياً، مثل مضادات الأكسدة والأحماض الفينولية والعناصر المضادة للالتهاب، وكلها قد تسهم في تحسين صحة القلب والأوعية الدموية.
ومن هنا جاءت مبادرة فريق بحثي من جامعة أديلايد الأسترالية وجامعة كاليفورنيا في سان فرانسيسكو لإجراء أول تجربة سريرية عشوائية تختبر بشكل مباشر تأثير القهوة على احتمالات عودة الرجفان الأذيني.
تفاصيل تجربة دي كاف
بين عامي 2021 و2024، شارك في الدراسة 200 رجل وامرأة من خمس مستشفيات في الولايات المتحدة وكندا وأستراليا. كان جميعهم يشربون القهوة بانتظام أو في السنوات الأخيرة، وتم اختيارهم لأنهم سيخضعون لإجراء طبي يُعرف باسم التحويل الكهربائي لإعادة نبض القلب إلى إيقاعه الطبيعي.
بعد نجاح العملية، قُسّم المشاركون إلى مجموعتين:
مجموعة القهوة: طُلب منهم شرب فنجان واحد على الأقل من القهوة المحتوية على الكافيين يومياً لمدة ستة أشهر.
مجموعة الامتناع: طُلب منهم الامتناع التام عن القهوة وجميع مصادر الكافيين بما في ذلك القهوة منزوعة الكافيين.
في بداية التجربة، كان معدل استهلاك القهوة متشابهاً في المجموعتين — نحو سبعة فناجين أسبوعياً. وبعد ستة أشهر، تابع الباحثون المشاركين باستخدام أجهزة تخطيط القلب السريرية وأجهزة المراقبة القابلة للارتداء وأجهزة الزرع القلبية.
وجاءت النتائج مفاجِئة:
47 % فقط من شاربي القهوة عانوا من عودة الرجفان الأذيني،
مقابل 64% من الممتنعين.
ما يعني أن خطر تكرار اضطراب نبض القلب كان أقل بنسبة 39% لدى شاربي القهوة.
كما لم تُسجَّل أي زيادة في حالات السكتة الدماغية أو قصور القلب أو الوفاة بين من تناولوا القهوة، وهو ما أكد سلامة استهلاكها ضمن الحدود المعتدلة.
نتائج “مذهلة” تناقض ما اعتقده الأطباء لسنوات
قال الدكتور كريستوفر وونغ، الباحث الرئيس في جامعة أديلايد، واصفاً النتائج بأنها “مذهلة بكل المقاييس”: “على عكس ما كان يُعتقد، أظهرت دراستنا أن تناول القهوة أدى إلى انخفاضٍ ملحوظ في معدلات الرجفان الأذيني مقارنة بالامتناع عنها تماماً.”
وأضاف الدكتور غريغوري ماركوس، طبيب القلب من جامعة كاليفورنيا:
“من المنطقي أن يُسمح للمرضى بتجربة المشروبات الطبيعية التي تحتوي على الكافيين، مثل القهوة أو الشاي، طالما أنها لا تثير لديهم الأعراض.”
وشدّد الباحثون على أن التجربة شملت استهلاك القهوة ضمن المعدلات الطبيعية اليومية — نحو فنجان واحد — وأن النتائج لا تنطبق على مشروبات الطاقة أو الجرعات العالية من الكافيين الصناعي.
لماذا قد تكون القهوة مفيدة للقلب؟
فسّر العلماء النتائج بعدة آليات محتملة:
تثبيط مستقبلات الأدينوزين:
الكافيين يمنع ارتباط الأدينوزين — وهو مركّب يُحفّز اضطراب النبض — بمستقبلاته في القلب، مما يحدّ من التقلّبات الكهربائية المسببة للرجفان.
خصائص مضادة للالتهاب:
تحتوي القهوة على أحماض فينولية أبرزها حمض الكلوروجينيك، تُخفف الالتهابات المزمنة التي تعدّ عاملاً رئيسياً في اضطرابات نبض القلب.
تأثير مدرّ للبول:
يسهم في خفض ضغط الدم وتقليل احتباس السوائل، مما يخفف العبء على عضلة القلب.
تحفيز النشاط البدني:
دراسات سابقة أظهرت أن شاربي القهوة يميلون إلى ممارسة نشاط بدني أكبر خلال اليوم، وهو عنصر معروف بتقليص خطر عودة الرجفان الأذيني.
البديل الصحي:
قد يستبدل شاربو القهوة المشروبات الغازية أو السكرية بالقهوة، ما يقلل من عوامل الخطر المرتبطة بالسمنة والسكري.
هذه التفاعلات البيولوجية والسلوكية مجتمعة تشرح كيف يمكن للقهوة أن تكون عامل استقرار لإيقاع القلب بدلاً من مثيرٍ له، كما كان يُعتقد.
نحو تغييرٍ في التوصيات الطبية
تُعد تجربة دي كاف نقطة تحول في فهم العلاقة بين القهوة وصحة القلب.
فلأول مرة، تُظهر تجربة سريرية عشوائية أن القهوة ليست فقط آمنة لمرضى الرجفان الأذيني، بل قد تُسهم في الوقاية من عودة اضطراب النبض بعد العلاج.
يقول الدكتور وونغ: “بين مرضى الرجفان الأذيني الذين خضعوا للعلاج، كان استهلاك فنجان واحد من القهوة يومياً مرتبطاً بانخفاضٍ في تكرار الحالة، وليس بزيادتها. لقد حان الوقت لإعادة النظر في النصيحة القديمة التي تُحذّر من القهوة.”
ولا يعني ذلك أن الجميع يجب أن يزيدوا استهلاكهم للقهوة، بل إن الاعتدال — فنجان أو اثنان يومياً — قد يكون الخيار الأمثل للحفاظ على التوازن بين الفائدة والأمان.
نظرة نقدية وقيود الدراسة
رغم أهمية النتائج، أشار الباحثون إلى بعض القيود:
التجربة لم تكن مُعمّاة، إذ عرف المشاركون أي مجموعة ينتمون إليها.
عدد المشاركين محدود (200 فقط) ومدة التجربة 6 أشهر.
نحو ثلث الممتنعين لم يلتزموا كلياً بتجنب القهوة، ما قد يعني أن الفائدة الحقيقية أكبر مما ظهر.
اقتصرت الدراسة على من اعتادوا شرب القهوة سابقاً، لذا لا يمكن تعميمها على من لم يتناولوا القهوة مطلقاً.
ورغم ذلك، بقيت النتائج إحصائياً قوية بعد تعديلها حسب العمر والعلاجات والأمراض المصاحبة، ولم تُسجّل أي مؤشرات تدل على ضرر من القهوة.
القهوة من جديد.. صديقة القلب
تأتي هذه الدراسة لتضيف فصلاً جديداً إلى النقاش الطويل حول القهوة وصحة القلب.
فبعد أن ربطت دراسات سابقة القهوة بانخفاض خطر الجلطات الدماغية والسكري والوفيات المبكرة، تأتي تجربة DECAF لتؤكد أن القهوة ليست فقط آمنة للقلب، بل قد تكون حليفاً له.
وربما آن الأوان لأن تتغير النظرة الطبية التقليدية إلى هذا المشروب العالمي — من “محفّز خطر” إلى مشروب طبيعي داعم لصحة القلب والإيقاع الحيوي للجسم.
عن الدراسة
أُجريت تجربة DECAF بالتعاون بين جامعة أديلايد وجامعة تورنتو وجامعة كاليفورنيا في سان فرانسيسكو، بدعم من مؤسسة القلب الوطنية الأسترالية والمعاهد الوطنية الأمريكية للصحة.
وتم تقديم نتائجها خلال مؤتمر الجمعية الأمريكية لأمراض القلب 2025 في مدينة نيو أورلينز.
خلاصة القول
لا تدعو هذه النتائج الجميع إلى الإكثار من القهوة، لكنها تدعو إلى إعادة التفكير في النظرة التقليدية التي جعلت القهوة تُصنَّف خطأً كعدوٍ للقلب.
فبينما تستمر الأبحاث في كشف أسرار هذا المشروب العريق، يبدو أن فنجان القهوة اليومي المعتدل قد لا يمنحنا اليقظة فحسب، بل يمنح القلب توازنه أيضاً.
المصدر:
Wong CX et al., Caffeinated Coffee Consumption or Abstinence to Reduce Atrial Fibrillation (The DECAF Randomized Clinical Trial), JAMA, 2025.