موجة “القهوة الصحية” تنطلق رسميًا بعد اعتماد إدارة الغذاء والدواء الأمريكية

موجة “القهوة الصحية” تنطلق رسميًا بعد اعتماد إدارة الغذاء والدواء الأمريكية

بعد عقود من الجدل حول تأثير القهوة على الصحة، أعلنت إدارة الغذاء والدواء الأمريكية (FDA) رسميًا في ديسمبر 2024 تصنيف القهوة كمشروب صحي، في خطوة وُصفت بأنها نقطة تحوّل محورية في تاريخ هذه الصناعة. يأتي هذا القرار انسجامًا مع تراكم الأبحاث العلمية التي أكدت فوائد القهوة في تعزيز القدرات الإدراكية وتقليل خطر الإصابة بأمراض مزمنة مثل باركنسون والسكري من النوع الثاني.

ويُنظر إلى هذا الاعتماد على أنه فرصة كبيرة للقطاع في ظل النمو المتسارع لاقتصاد العافية العالمي، الذي تبلغ قيمته 4.5 تريليون دولار، والذي يعيد تشكيل سلوك المستهلك وتوقعاته. إذ يتزايد الطلب على القهوة الوظيفية، وهي تلك المدعّمة بمكوّنات مثل البروبيوتيك، ومضادات الأكسدة، والمركبات التكيفية، ما يمنح المشروب أبعادًا جديدة تتجاوز كونه مجرد وسيلة للحصول على الكافيين. وتفتح هذه التحولات الباب أمام تطوير منتجات مبتكرة واستراتيجيات تسويقية جديدة، خصوصًا بين فئة الشباب التي باتت تدرك فوائد القهوة الصحية منذ سنوات، وفقًا لبيانات الرابطة الوطنية للقهوة في الولايات المتحدة.

وترى إلدي ريفي، مديرة قسم التعليم في شركة “بيوريتي كوفي”، أن هذا الاعتراف يشكل لحظة محورية تعزز ما كانت تقوله الأبحاث منذ زمن طويل، مضيفة أن المستهلكين سيبدؤون في النظر إلى القهوة من زاوية أوسع تتعلق بالعافية طويلة الأمد، لا بمجرد زيادة النشاط أو التركيز.

وتشير تقارير حديثة صادرة عن “يورو مونيتور” إلى أن القهوة تشهد حاليًا تحولات تتقاطع فيها مفاهيم الرفاهية والصحة والمتعة المحسوبة، إذ يبحث المستهلك عن منتجات تتماشى مع أهدافه الصحية دون أن يتنازل عن المذاق أو الجودة. وفي هذا السياق، تتجه العديد من العلامات التجارية نحو تقديم أنواع من القهوة العضوية الغنية بمضادات الأكسدة، وأخرى مدعّمة بالبروبيوتيك لتحسين صحة الجهاز الهضمي، إلى جانب مشروبات باردة مضاف إليها ألياف بريبايوتيك أو مركّبات تساعد على الاسترخاء. كما ظهرت منتجات تحتوي على مكونات غير تقليدية مثل الكولاجين، وزيوت القنب، بل وحتى مستخلصات الفطر الطبية.

لكن في مقابل هذا التوجه المتسارع نحو “القهوة الصحية”، برزت تحديات حقيقية تتعلق بالسلامة والجودة. فقد أثار سحب شركة “سناب تشيل” لمنتجات القهوة المعلبة المخاوف بعد أن حذّرت السلطات من إمكانية تلوثها ببكتيريا البوتيوليزم السامة، وهو ما أدى إلى استدعاء واسع النطاق داخل السوق الأمريكية. وأعاد هذا الحادث إلى الأذهان واقعة مماثلة في عام 2017 عندما سحبت شركة “ديث ويش كوفي” طوعًا منتجها من مشروبات الباردة. وبيّنت هذه الحوادث هشاشة البنية التنظيمية لبعض الجهات الفاعلة في قطاع القهوة المختصة، خاصةً فيما يتعلق بالتعقيم والتغليف والتخزين السليم.

وحذّرت ريفي من أن هناك فهمًا خاطئًا لا يزال سائدًا في القطاع بشأن معايير السلامة الغذائية، حيث يعتبرها البعض مجرد عراقيل بيروقراطية تعيق الابتكار، أو يتجاهلونها ظنًا أنها لا تنطبق على المشاريع الصغيرة. وأوضحت أن البكتيريا مثل الليستيريا والكلوستريديوم قد تبقى كامنة لفترات طويلة في بيئات باردة أو منخفضة الحموضة مثل القهوة المعلبة أو المؤكسجة بالنيتروجين، وأن أي خلل في سلسلة التبريد قد يؤدي إلى تحفيز هذه الجراثيم وتحويل المنتج إلى خطر حقيقي.

هذا الواقع دفع العديد من المحامص والمقاهي إلى تبنّي استثمارات أكبر في مجالات الشهادات الخارجية، وسلاسل التوريد الشفافة، وتطبيق بروتوكولات سلامة صارمة. كما أصدرت الرابطة الوطنية للقهوة إرشادات خاصة بسلامة القهوة الخضراء ومشروبات القهوة الباردة، بما يشمل مراقبة مستوى الحموضة، وعمليات البسترة، والترشيح، والتخزين بدرجات حرارة مناسبة. وترى ريفي أن هذه الإجراءات ليست عقبات أمام الابتكار، بل أدوات ضرورية لدفع الصناعة إلى الأمام بثقة ومسؤولية.

وتزداد هذه التحديات حدّة بالنسبة للشركات الصغيرة والمحمصات المستقلة التي قد لا تتحمل تبعات مالية أو قانونية ناجمة عن حادثة تلوث واحدة. ومع تصاعد وعي المستهلك، باتت الثقة عنصرًا حاسمًا في قرار الشراء. وفي هذا السياق، دعت ريفي إلى نشر نتائج تحاليل المكونات (COAs) على المواقع الرسمية للعلامات التجارية، مع توضيحات علمية تساعد المستهلك على تحديد ما إذا كانت القهوة تناسب أهدافه الصحية. لكنها حذّرت في الوقت ذاته من استخدام هذه الوثائق كأسلحة تنافسية أو أدوات للانتقاص من الآخرين، مؤكدة أن القطاع لا يزال في بداياته من حيث تطوير قهوة صحية مبنية على أسس علمية صلبة.

وفي ظل توجه الجهات الرقابية نحو تشديد القوانين المتعلقة بالادعاءات الصحية، من المتوقع أن تواجه صناعة القهوة موجة جديدة من المتطلبات التنظيمية، تشمل تحديد نسب المكونات، وضوابط النظافة، والمواد المضافة، مع ما يرافق ذلك من فرص أمام نماذج عمل جديدة تجمع بين الجودة والصحة والابتكار.

تشير بيانات “يورو مونيتور” إلى أن سوق القهوة المرتبطة بالصحة والعافية سيشهد نموًا سنويًا بنسبة 6.8% خلال السنوات الخمس المقبلة، بدعم من الطلب المتزايد على المنتجات العضوية والوظيفية. وتحقق العلامات التجارية التي سبقت في تبنّي معايير مبنية على أسس علمية مستويات أعلى من الولاء لدى المستهلكين، بل وتتمكن من تسعير منتجاتها بفارق إيجابي في السوق.

وترى ريفي أن مستقبل القهوة لا يجب أن يكون ساحة تنافس محموم، بل بيئة تعاون تنافسي تضع معايير صحية دقيقة ومشتركة. وتقول: “هناك متسع للجميع في هذا المسار. هذه ليست مجرد موجة، بل أفق جديد بإمكانه أن يُحدث فارقًا في حياة مئات الملايين من الناس الذين يشربون القهوة يوميًا.”

في ظل هذا التحوّل، لم تعد القهوة مجرد مشروب محبوب، بل منتج معتمد صحيًا. ومع ذلك، فإن الحفاظ على هذه المكانة يتطلب يقظة جماعية. من المزارع إلى المحمصة، ومن المقاهي إلى مورّدي المعدات، الجميع بات معنيًا بالالتزام بمعايير النظافة والسلامة والشفافية لضمان استدامة الثقة في القهوة بوصفها مشروبًا صحيًا في عصر العافية.

Spread the love
نشر في :