مفارقة الكاكاو: كيف تعيد الأزمات والتحولات العالمية ودبي رسم ملامح صناعةٍ بقيمة 26 مليار دولار
دبي – قهوة ورلد
تعيش صناعة الكاكاو العالمية، التي ارتبطت لعقود بالترف والمتعة، مرحلةً من التحول الجذري غير المسبوق. فالعجز الحاد في الإمدادات، وتغيّر المناخ، وتشديد اللوائح التنظيمية، جميعها كشفت هشاشة البنية الاقتصادية لهذه السلعة التي يعتمد عليها ملايين المزارعين في إفريقيا. ومع ذلك، فإن هذه الأزمة نفسها تفتح الباب أمام فرص جديدة للتنوّع والابتكار وإعادة توزيع القيمة، بينما تبرز دبي كنقطة وصل عالمية تربط بين المنتجين والمستهلكين وتعيد رسم خريطة تجارة الكاكاو.
أصدر مركز دبي للسلع المتعددة (DMCC) تقريرًا شاملًا بعنوان «مستقبل التجارة – النسخة الخاصة بالكاكاو»، وهو جزء من سلسلة تقارير السلع الزراعية التي يصدرها المركز. ويحلّل التقرير أوضاع سوق الكاكاو العالمي وتحدياته البنيوية، من نقص الإنتاج وارتفاع الأسعار إلى تطور التكنولوجيا الرقمية، وتحولات الطلب نحو المنتجات الأخلاقية والمستدامة، ودور دبي المتنامي كمركز محوري للتجارة. ويستند هذا الخبر إلى أبرز ما ورد في التقرير الذي يُعد من أكثر الدراسات الحديثة شمولًا حول صناعة الكاكاو ومستقبلها.
أزمة المعروض وتفاوت العوائد
تقدَّر قيمة سوق الكاكاو العالمي بنحو 16.6 مليار دولار في عام 2025، ومن المتوقع أن تصل إلى 26.2 مليار دولار بحلول عام 2035. غير أن هذا النمو يخفي خلفه اضطرابًا عميقًا. فقد شهد موسم 2023/2024 أكبر تراجع في الإنتاج منذ عقود، بانخفاضٍ بلغ 13% ليصل إلى 4.4 ملايين طن فقط، ما أدى إلى عجزٍ يقارب نصف مليون طن وارتفاع الأسعار إلى مستويات قياسية. كما تراجعت عمليات الطحن بنسبة 5% لتبلغ 4.8 ملايين طن، وفق تقديرات المنظمة الدولية للكاكاو (ICCO).
تكمن جذور الأزمة في إفريقيا الغربية التي تنتج أكثر من 60% من الكاكاو العالمي من ساحل العاج وغانا ونيجيريا والكاميرون. فقد تسببت الأمراض مثل «الفيروس المنتفخ» و«عفن القرون الأسود» في تدمير مساحات شاسعة من المزارع، إضافة إلى الشيخوخة الكبيرة في الأشجار وتقلص برامج إعادة الزراعة. وحذرت الهيئة الغانية المنظمة للكاكاو من تراجعٍ إضافي قد يبلغ 10% في موسم 2025/2026.
يقول كوادو بواتشي أجيي، مؤسس شركة كومبي كاكاو، إن “كثيرًا من مزارع الكاكاو تعاني من التقادم ونقص الاستثمار، إذ يفتقر المزارعون إلى الأسمدة والبذور الجيدة بسبب غياب التمويل الكافي لإعادة الاستثمار في المجتمعات الزراعية. هذه الحلقة المفرغة من ضعف الإنتاج والدخل المحدود يجب أن تتوقف.”
أما الأسعار، فعلى الرغم من ارتفاعها القياسي، فإن المزارعين في غانا وساحل العاج يحصلون على أسعار ثابتة تحددها الحكومات، غالبًا لا تكفي لتغطية تكاليف الإنتاج أو التجديد. يقول ماورو دانيلو ريبيزي، مؤسس مجموعة ريبيزي: “من كل دولار يُنفق على لوح شوكولاتة، لا يحصل المزارع سوى على سنتين اثنين فقط. الاقتصاد هش للغاية، وإن استمر الأمر، سيترك الناس المهنة.”
وفي المقابل، تواجه الشركات المصنِّعة ارتفاعًا في تكاليف الطاقة والنقل والتمويل، مما دفع بعضها إلى تقليص أحجام المنتجات أو تعديل مكوناتها. فقد خفّضت شركة مارس وزن لوح «جالاكسي» بمقدار 10 غرامات، فيما أزالت نستله كلمة «شوكولاتة» من بعض منتجاتها في المملكة المتحدة بعدما انخفضت نسبة الكاكاو عن الحد القانوني البالغ 20%.
ورغم استمرار الشوكولاتة في الهيمنة على الطلب العالمي بنسبة تتجاوز 85%، إلا أن التحول نحو منتجات “العافية” والبدائل الصحية بات واضحًا. فالجيل الجديد من المستهلكين يبحث عن منتجات أخلاقية وغنية بالمضادات الطبيعية، مما يدفع الشركات إلى الاستثمار في الكاكاو الخام والعضوي الذي ارتفعت قيمته من 14.3 مليار دولار عام 2024 إلى توقعاتٍ تبلغ 23.6 مليار دولار بحلول 2033. كما توسعت استخدامات الكاكاو لتشمل الصناعات التجميلية والصيدلانية، حيث يُقدَّر أن يصل سوق زبدة الكاكاو إلى 9.37 مليارات دولار بحلول 2032.
لكن هذه التحولات تأتي وسط تشديد غير مسبوق في اللوائح الأوروبية، إذ أقرّ الاتحاد الأوروبي تشريعات تُلزم الشركات بإثبات أن الكاكاو الذي تستخدمه لم يُزرع في أراضٍ أُزيلت منها الغابات. وتشير البيانات إلى أن زراعة الكاكاو تسببت منذ عام 2000 في إزالة 37% من الغابات المحمية في ساحل العاج و13% في غانا، ما يجعل التتبع الرقمي والشفافية شرطًا أساسيًا لدخول السوق الأوروبية.
دبي.. مركز جديد لتجارة الكاكاو العالمية
في ظل هذه التحديات، يبرز دور دبي كمركزٍ استراتيجي يعيد رسم ملامح تجارة الكاكاو العالمية. فبفضل بنيتها التحتية المتقدمة وموقعها الجغرافي الرابط بين إفريقيا وآسيا وأوروبا، أصبحت الإمارات حلقة وصلٍ رئيسية في تجارة السلع الزراعية.
وبحسب تقرير مركز دبي للسلع المتعددة، استوردت الدولة عام 2023 ما قيمته 17.3 مليون دولار من حبوب الكاكاو (96% منها من ساحل العاج)، فيما بلغت صادراتها من الحبوب الخام 16.4 مليون دولار، معظمها إلى إيران وماليزيا والسعودية. هذه الأرقام وإن كانت متواضعة مقارنة بالمراكز الأوروبية، إلا أنها تشير إلى نموٍ متسارعٍ في النشاط التجاري وازدياد أهمية دبي في سلاسل الإمداد.
وبعد النجاح الكبير الذي حققه مركز القهوة في دبي ومركز الشاي العالمي، يستعد مركز دبي للسلع المتعددة لإطلاق مركز الكاكاو، الذي سيوفر خدمات متكاملة تشمل التخزين والطحن والتغليف والعلامات التجارية والتمويل التجاري، بما يخلق منظومة جديدة تشجع الشفافية والتكامل بين المزارعين والمستوردين والمستثمرين.
يقول بواتشي أجيي: “يوفر المركز للمزارعين الأفارقة ما يفتقدونه منذ عقود: الوصول المباشر إلى الأسواق ورأس المال.”
ويضيف ريبيزي: “إن منظومة DMCC لا تعمل فقط كمنصة للتجارة، بل كجسرٍ يربط بين المنتجين والممولين والمشترين في بيئة شفافة ومستقرة.”
كما يسلط التقرير الضوء على التحول التكنولوجي الذي يعيد تشكيل الصناعة، من المدفوعات الرقمية للمزارعين إلى استخدام تقنيات البلوك تشين لتتبع سلاسل الإمداد وضمان الامتثال للوائح البيئية. بل ويتطرق إلى المستقبل الواعد لتقنيات الكاكاو المزروع في المختبر التي تطوّرها شركات كبرى مثل باري كاليبو ومييجي اليابانية، إلى جانب الابتكارات في السلالات المقاومة للأمراض والبدائل النباتية للشوكولاتة التقليدية.
ويخلص التقرير إلى أن مستقبل الكاكاو العالمي يتوقف على خمس ركائز رئيسية: الزراعة المتكيفة مع المناخ، الشفافية الرقمية، التنويع الجغرافي، الابتكار المالي، والمشاركة العادلة في القيمة.
ومن خلال نموذج دبي، يمكن إعادة تعريف علاقة الشمال بالجنوب في تجارة الكاكاو، بحيث تتحول من علاقة موردٍ ومستهلكٍ إلى شراكةٍ عادلة تُعيد توزيع القيمة وتمنح المزارعين صوتًا في سلسلة التجارة العالمية.