من تخمة الإمدادات إلى التحوّل الاستراتيجي.. صناعة القهوة بين التحدي والتكيّف
مع تراجع الأسعار وارتفاع صادرات الروبوستا، يدخل سوق القهوة العالمي مرحلة حساسة تمزج بين الوفرة والقلق.. فماذا يحدث خلف الكواليس؟
للمرة الأولى منذ ديسمبر 2024، تراجعت الأسعار العالمية للقهوة إلى ما دون حاجز 300 سنت للرطل. حيث سجل المؤشر المركب لأسعار القهوة الصادر عن المنظمة الدولية للقهوة (I-CIP) متوسطًا قدره 295.06 سنتًا أمريكيًا للرطل في يونيو 2025، بانخفاض حاد بلغ 11.8% مقارنةً بشهر مايو. لكن هذا الانخفاض ليس سوى غصن من شجرة أكبر؛ فسوق القهوة يعيش لحظة مفصلية يتقاطع فيها فائض العرض مع تحولات استراتيجية عميقة من ساو باولو إلى سايغون.
وراء تراجع الأسعار يكمن عامل غير متوقع: الوفرة. فوفقًا لتقديرات وزارة الزراعة الأمريكية، يتجه العالم نحو فائض يبلغ 9.32 مليون كيس في عام القهوة 2025/2026، بعد فائض سابق قدره 7.88 مليون كيس في عام 2024/2025. كما ارتفعت المخزونات المعتمدة إلى أعلى مستوياتها في تسعة أشهر بنهاية مايو، قبل أن تنخفض قليلًا بنهاية يونيو، مما عزز من المزاج السلبي في الأسواق.
حتى أصناف القهوة المتميزة مثل الكولومبية الخفيفة لم تسلم من الانخفاض، بينما سجلت أسعار الروبوستا تراجعًا كبيرًا بنسبة 17.5% إلى 196.21 سنتًا للرطل، لتكسر بذلك حاجز 200 سنت لأول مرة منذ يناير 2024. أما على صعيد التجارة، فقد قفزت صادرات الروبوستا بنسبة 20.1% مقارنة بالعام الماضي، مدفوعة بارتفاع مذهل لصادرات فيتنام بنسبة 87.3%، إلى جانب أداء قوي من إندونيسيا وأوغندا.
وقد يبدو للوهلة الأولى أن الروبوستا بدأت تأخذ مكانها في الصدارة، لكن هذه ليست انتصارًا بقدر ما هي إعادة توازن مؤقتة. فالزيادة في فيتنام جاءت بعد سنوات من الجفاف، في حين تعود صادرات البرازيل إلى طبيعتها بعد عام استثنائي من الارتفاع.
في المقابل، ورغم أن ارابيكا لا تزال تمثل 62.9% من إجمالي صادرات البن الأخضر، فإن أداءها كان أكثر تراجعًا. فقد سجلت مجموعة “الكولومبية الخفيفة” أول انخفاض لها بعد 19 شهرًا من النمو المتواصل، مع تراجع صادرات كولومبيا بنسبة 3.6%.
لكن التقلبات في السوق ليست رقمية فقط. ففي 23 يونيو، أثارت أنباء عن صقيع في مناطق زراعة البن الرئيسية بالبرازيل موجة ارتفاع في الأسعار، قبل أن تتبدد مع صدور تقارير مناخية مطمئنة. مما يثبت مرة أخرى أن المناخ لا يزال عاملًا حاسمًا في تحديد مصير القهوة، رغم تطور الأدوات المالية والتجارية.
قصة هذا الشهر لا تقتصر على التراجع، بل تدور حول كيفية التكيّف الذكي مع المشهد الجديد. فقد ارتفعت صادرات القهوة المحمصة بنسبة 46.8%، كما زادت صادرات القهوة سريعة التحضير بنسبة 15.4%، وكانت البرازيل في طليعة المصدرين. من الواضح أن الأسواق تسعى لتعديل استراتيجياتها من خلال التركيز على المنتجات ذات القيمة المضافة.
ما الذي يعنيه كل ذلك لصناعة القهوة؟
المزارعون يواجهون تحدي إدارة الفائض دون انهيار الأسعار. والمصدرون يتوجهون نحو منتجات جديدة ومبتكرة. والمحمصون يحاولون فهم الفجوة المتقلصة بين القهوة التجارية والمتخصصة، بينما المستهلكون يوازنـون بين الجودة والتكلفة. وفي الخلفية، يبقى المناخ المتغير عاملًا لا يمكن تجاهله.
في عالم لم تعد فيه الكمية وحدها ضمانًا للربح، يبدو أن الرابحين الحقيقيين هم أولئك الذين يفهمون السوق، ويقرؤون إشاراته، ويتصرفون بمرونة وذكاء.