حراز: رحلة إلى قلب القهوة اليمنية
تحتل اليمن مكانة خاصة في النسيج الغني لتاريخ القهوة، فمن اليمن تذوق العالم القهوة لأول مرة، وتعمقت جذور تجارة البن العالمية من على ترابها.
وبينما يتجادل المؤرخون حول أصل القهوة -أثيوبيًة كانت ام يمنية – تظل هناك حقيقة واحدة لا جدال فيها .. “لو لم تكن اليمن ماكانت القهوة تكتسي حُلتها البهية اليوم، لكانت لا تُرى وكيانًا غير معروف”.
تشير السجلات التاريخية إلى أن الصوفيين اليمنيين في أوائل القرن الخامس عشر هم أول من ارتقى بالقهوة من مجرد مشروب إلى طقوس اجتماعية، حيث استخدموها لتحفيز عقولهم أثناء العبادة الليلية. وتعتبر القهوة اليمنية مثالاً للجودة فتصل اسعارها لمبالغ مُذهلة، حيث يصل سعر الرطل منها إلى 240 دولارًا والكيلو لحوالي 500 دولار. وتعد أوروبا والولايات المتحدة المستوردين الرئيسيين للبُن اليمني على الرغم من تضاؤل الإنتاج.
تزدهر القهوة في جميع أنحاء اليمن، ولكن مناطقًا منها حفرت أسمها في تاريخ القهوة، ومنها منطقة حراز الذي تحتضنها الاراضي اليمنية والمشهورة بجبالها الشاهقة، فيصل ارتفاع بعضها إلى أكثر من 3000 متر فوق مستوى سطح البحر، كما يُزرع البن فيها على مُرتفعات تصل إلى 2600 متر فوق مستوى سطح البحر، وتضم مُدرجات شاسعة من اشجار بُن صُنعت بأيادي يمنية، مما حول المناظر الطبيعية إلى مزارع بن غناء.
“حراز”، هو الاسم الذي يُرادف جمال البيوت القابعة فوق السحاب، بأسطح نابضة بالحياة، مكسوة بحبوب البُن المجففة ولونها الخلاب.
حراز الذي يرجع تاريخها في الروايات الى أكثر من 500 عام في زراعة البُن، عاشت مع اهلها عقودًا من الزمن، حتى اصبحت حياة لهم والقلب النابض لديارهم.
دليلنا إلى قلب حراز في هذه الرحلة هو عبد اللطيف الجرادي، خبير القهوة المعتمد من معهد جودة القهوة، والمساهم المؤسس في شركتي “موكا ستوري” و”كوفي ستوري” المُصدرتين للبن اليمني.
لم يحافظ الجرادي على أصناف القهوة المهددة بالانقراض فحسب، بل قام أيضًا بنشرها في مزرعة خاصة تضم 300 شجرة مزدهرة.
وتنقسم حراز، بحسب الجرادي، إلى أربعة أقسام متميزة لإنتاج القهوة: حراز الشرقي، وحراز الغربي، وصعفان، وبني إسماعيل. تتميز كل منطقة بطابعها الفريد وشكل القهوة الذي تتشكل من خلال الاختلافات في التضاريس والبيئة والمياه والتربة.
قهوة حراز الشرقية تأسر بحلاوتها وثمارها و خمرتها التي لا مثيل لها. في المقابل، تتميز قهوة حراز الغربية بنكهات الفواكه الاستوائية ونكهات البخور الفريدة والحلاوة الشديدة والحبوب الصلبة بشكل استثنائي. تسحر قهوة صعفان بنفحاتها الزهرية والسكرية، بينما تقدم قهوة بني إسماعيل، التي غالباً ما تشبه الشوكولاتة، مزيجاً من المكسرات والكراميل والحبوب الدائرية المميزة.
ويتراوح ارتفاع زراعة البن في حراز بين 1700 و2600 متر فوق سطح البحر، وتنتج حبوب البن الكثيفة والحلوة. ويؤكد الجرادي أن هذه المرتفعات ليست مجرد أرقام، بل هي شهادة على الزراعة الدقيقة على مدرجات الأجداد.
ويشير الجرادي إلى أن الجعدي الشرقي والجعدي الدوائري منتشرة بشكل كبير في حراز، بينما يفضل اهل صعفان صنف التفاحي. وفي الوقت نفسه، تفتخر بني إسماعيل بصنف الخطابي الاسماعيلي المشهور عالميًا بطعمة و شكل الحبوب الدائرية بخصائصه الفريدة.
على الرغم من كونها إحدى المناطق الرائدة في إنتاج القهوة في اليمن، تواجه حراز بشكل خاصة و اليمن بشكل عام تحديات ناجمة عن تغير المناخ. ويشير الجرادي إلى الاعتماد على أساليب الزراعة التقليدية، دون تدخل الآلات في الحرث أو الحصاد. وتحظى اشجار البن، التي يعتبرها المزارع أحد أفراد الأسرة، بعناية فائقة، ويعكس العائد الاهتمام المستثمر.
أدت التغييرات الأخيرة في ممارسات ما بعد الحصاد، بما في ذلك الحصاد الانتقائي وطرق التجفيف الدقيقة، إلى إحياء سمعة قهوة حراز بشكل خاص و القهوة اليمنية بشكل عام على الساحة العالمية.
وفي الختام تبقى حراز فصلاً آسراً في ملحمة القهوة اليمنية. إن أرضها الفريدة وأصناف القهوة المتنوعة وتفاني مزارعيها يتردد صداها عبر العصور. وبما أن تغير المناخ يفرض تحديات، فإن صمود مزارعي البن في حراز يحافظ على هذا التقليد القديم على قيد الحياة، مما يضمن استمرار العالم في تذوق سحر القهوة اليمنية.