شنغهاي.. عاصمة القهوة الجديدة في العالم
شنغهاي – قهوة ورلد
لم تعد شنغهاي مجرّد مدينة اقتصادية ضخمة أو مركزاً تجارياً عالمياً، بل أصبحت اليوم قلب الثورة القهوية الآسيوية، المدينة التي حوّلت القهوة من مشروبٍ يومي إلى تجربةٍ فنيةٍ وثقافيةٍ نابضة بالحياة. هنا لا تُحتسى القهوة فقط، بل تُعاش بكل تفاصيلها.
تشير تقارير Dao Insights إلى أنّ عدد المقاهي في شنغهاي تجاوز 9115 مقهى عام 2024، وهو رقم لم تصل إليه أي مدينة أخرى في العالم. أما استهلاك القهوة في الصين فقد ارتفع بنسبة 150% خلال العقد الماضي، ليبلغ 6.3 ملايين كيس، يزن كلّ كيسٍ 60 كيلوجراماً، وفقاً لبيانات وزارة الزراعة الأميركية. هذا النمو الهائل جعل من الصين واحدة من أسرع الأسواق القهوية توسعاً في العالم، وجعل من شنغهاي وجهتها الأبرز.
ثقافة قهوة جديدة
في شنغهاي، لا يُنظر إلى المقهى كمكانٍ للجلوس فحسب، بل كمساحةٍ للفنّ والتعبير والإبداع. فكلّ مقهى يروي حكاية، وكلّ فنجان يحمل توقيعاً خاصاً. بعض المقاهي تقدّم القهوة كتحفةٍ بصرية، تُصبّ على طبقاتٍ متدرجةٍ في اللون والحرارة، بينما تعتمد أخرى على الجانب العلمي للحرفة، حيث تُقاس حرارة المشروب بأجهزةٍ دقيقةٍ لتوضيح تأثيرها على النكهة.
المدينة اليوم مختبر مفتوح لتجارب لا تنتهي، يجتمع فيها الطابع الفني مع الدقّة العلمية في تجربةٍ واحدة.
خيال لا يعرف الحدود
تتميّز القهوة في شنغهاي بجرأتها وابتكارها. فهنا يمكنك أن تجد أمريكانو ممزوجاً بعصير البرتقال، أو لاتيه داخل فلفلٍ أخضر، أو إسبريسو بنكهة الدوريان. هذه الأفكار التي تبدو غريبة في أماكن أخرى، أصبحت في شنغهاي جزءاً من الهوية القهوية للمدينة.
كما ابتكرت سلاسل المقاهي الصينية الشهيرة مشروباتٍ موسميةً بنكهات الفواكه مثل المشمش والبطيخ والأناناس، فيما خصّصت فروعها لتقديم «القهوة الفاكهية» التي أصبحت اتجاهاً جديداً في السوق الصينية. فالقهوة هنا ليست لتقليد الغرب، بل لإعادة تعريفها وفق الذوق الصيني العصري.
طقوس بعد الظهر
في المدن الغربية يبدأ يوم العمل مع فنجان قهوة صباحي، أما في شنغهاي، فذروة الاستهلاك تقع بين الساعة 15:00 و17:00. فالقهوة ليست وسيلة للاستيقاظ بل لحظة استراحةٍ وإلهامٍ في منتصف اليوم.
كثير من المقاهي تفتح أبوابها بعد التاسعة صباحاً وتستمر حتى المساء، ما يعكس طبيعة المدينة التي لا تهدأ. القهوة في هذا الإطار تتحوّل من عادةٍ يومية إلى وسيلةٍ للتفاعل الاجتماعي ومصدرٍ للإلهام والإبداع.
من المشروب إلى المعرفة
في مقاهٍ راقية مثل كوفي سبوت وسبوت تابل، تُقدَّم تجربة الكل في واحد التي تتيح للزائر تذوّق نوع القهوة نفسه بثلاث طرق: سوداء، وبالحليب، وبطريقةٍ خاصةٍ من ابتكار المقهى. هذا النموذج مستوحى من مسابقات تحضير القهوة العالمية، ويهدف إلى جعل الزائر يتعرّف على القهوة بوصفها علماً وفناً في آنٍ واحد.
كل فنجان هنا يمثل درساً في التذوّق، والبطاقات المرافقة تشرح مصدر الحبوب وطريقة معالجتها ودرجة حرارتها، لتصبح التجربة التعليمية جزءاً من المتعة.
القهوة كفنٍّ بصري وروحي
ما يميّز شنغهاي أنّها مدينة تهتمّ بالتفاصيل. تصميم المقاهي فيها جزءٌ من التجربة، من الجدران الخرسانية المصقولة والإضاءة الهادئة إلى ترتيب الأكواب على الطاولات كقطعٍ فنيةٍ صغيرة. كل شيءٍ يوحي بأن القهوة هنا ليست سلعة، بل ثقافة.
بعض المقاهي تقدّم مشروباتها مع بطاقاتٍ تحدّد درجة الحرارة وتفاصيل النكهة. وهناك من يحوّل كل فنجان إلى لحظة تأملٍ، تجمع بين الجمال والذوق والمعرفة.
مهرجان القهوة وروح المدينة
تحتضن شنغهاي كل عام مهرجان ثقافة القهوة في منطقة جينغان، الذي يجذب أكثر من 50 ألف زائر من داخل الصين وخارجها. الحدث يقدّم مشروباتٍ غير تقليدية مثل القهوة الممزوجة بخلّ مقاطعة شانشي، أو تلك المستوحاة من الطبّ الصيني التقليدي والمحضّرة بجذور الهندباء وعرق السوس والمزيّنة بفلفل سيتشوان.
يُعدّ المهرجان انعكاساً حقيقياً لهوية المدينة التي تجمع بين التراث والحداثة، وبين التجريب والاحترام العميق للمذاق الأصيل.
مجتمع القهوة في المدينة
القهوة في شنغهاي لم تعد حكراً على فئةٍ معينة. ففي المقاهي يلتقي الفنّانون والطلاب ورجال الأعمال في مشهدٍ حضريٍّ نابضٍ بالحياة. المقاهي الصغيرة في الأزقّة القديمة أصبحت منصّاتٍ للنقاش والإبداع، بينما المقاهي الفاخرة في الأبراج الزجاجية تُمثّل الوجه الحديث للصين المنفتحة على العالم.
وفي الطرف الآخر من المشهد، نجد مقاهي يونّان دهونغ ديهوم التي تروّج للقهوة المزروعة محلياً في مقاطعة يونّان. هذه القهوة الصينية التي كانت تُعدّ في الماضي منتجاً ثانوياً أصبحت اليوم رمزاً للفخر الوطني، بفضل نكهاتها المتوازنة ولمستها المميزة التي تجمع بين الحلاوة والعمق.
من كوبٍ صغير إلى هويةٍ كبيرة
القهوة في شنغهاي ليست مشروباً عابراً، بل لغةٌ تعبّر عن المدينة نفسها: سرعة الإيقاع، ودقّة الذوق، والانفتاح على كل جديد. من الأكشاك الصغيرة في الشوارع القديمة إلى المقاهي التي تشغل مساحاتٍ تزيد على 9000 متر مربع، يعيش أهل شنغهاي القهوة كجزءٍ من يومهم، وكتعبيرٍ عن هويتهم الحديثة.
اليوم لم تعد القهوة في الصين مجرد عادةٍ مستوردة، بل تحوّلت إلى صناعةٍ وثقافةٍ محليةٍ عميقة الجذور. ووسط كل هذا التنوع والابتكار، تقف شنغهاي شامخةً كعاصمةٍ عالميةٍ جديدةٍ للقهوة، مدينةٍ استطاعت أن تُعيد للعالم تعريف معنى الفنجان.