
الجزيئات بين العوالم.. كيف تنتقل السكريات والأحماض داخل حبوب القهوة
د. شتيفن شڤارتس | قنصلية القهوة – علوم القهوة التطبيقية
في أعماق غابات كولومبيا الكثيفة، حيث تختلط رائحة كرز القهوة الناضج برطوبة الهواء وتربة البراكين، تحدث تحولات خفية داخل حبة القهوة. فليست عملية تخمير اللبّ اللزج المحيط بالحبة وحدها المسؤولة عن النكهة، بل هناك رحلة جزيئية غير مرئية تنقل السكريات والأحماض من خارج الحبة إلى داخلها، فتشكّل ملامح النكهة في كل كوب نرتشفه.
دراسة حديثة أجراها علماء من مركز “سينيكافيه” وجامعة “كالداس” الكولومبية كشفت عن آلية دقيقة تؤثر بعمق على نكهة القهوة: انتقال المركبات العضوية – مثل الأحماض والسكريات – من اللبّ الخارجي إلى قلب الحبة خلال التخمير. هذا الاكتشاف يغير الطريقة التي نفهم بها نشوء النكهة في مرحلة المعالجة.
ركز الباحثون على صنف “كاستيو” من أرابيكا المزروع في منطقة “تشينشينا” بجبال الأنديز. وتم إخضاع حبوب القهوة لثلاث مراحل نضج مختلفة تحت ظروف تخمير خاضعة للرقابة الدقيقة. باستخدام تقنية تتبع نظائر الكربون، تابع الباحثون كيفية انتقال أحماض مثل الستريك والماليك والكينيك والطرطريك والأسيتيك واللاكتيك، بالإضافة إلى سكريات مثل الجلوكوز والفركتوز والسكروز، من اللبّ إلى الإندوسبيرم (الجزء الداخلي من الحبة).
النتائج كانت مفاجئة. فرغم ثبات نسب بعض الأحماض مثل الستريك والماليك والكينيك، إلا أن نسب حمض الطرطريك وحمض الأسيتيك ارتفعت بشكل ملحوظ مع طول فترة التخمير، مما يدل على أن هذه الأحماض لم تتكون فقط في اللبّ الخارجي، بل تسربت فعليًا إلى داخل الحبة.
هذا يؤكد وجود آلية انتقال تسمى “الانتشار الكتلي” (Mass Transfer by Diffusion)، وهي تختلف تمامًا عن الخلط أو التحريك. فعملية التخمير تتم في حالة شبه صلبة، دون تقليب أو حركة، فقط بفعل فرق التركيز الكيميائي بين الوسط الخارجي والداخل المحمي للحبة – كما لو كانت همسة كيميائية تنتقل بهدوء إلى قلب الحبة.
وتكمن أهمية هذا الاكتشاف في إمكانية تحسين جودة القهوة. فحمض الأسيتيك مثلًا يمكن أن يضيف حدة منعشة للنكهة بتركيز منخفض، لكنه قد يطغى على الطعم إذا زاد. أما حمض الطرطريك فيمنح نكهة حادة تشبه العنب. وبالنسبة للسكريات، فرغم استهلاك معظمها أثناء التخمير، إلا أن آثارها الأيضية تبقى وتؤثر في النكهة النهائية.
أظهرت الدراسة أيضًا أن عاملَي الزمن ودرجة الحرارة خلال التخمير يؤثران بشكل مباشر على عملية الانتشار. فكلما انخفضت درجة الحرارة، تباطأت حركة الجزيئات (كما في حالة شراب كثيف في زجاجة باردة)، وكلما ارتفعت تسارع الانتقال لكن أيضًا زادت احتمالية عدم استقرار النشاط الميكروبي. وهنا يكمن التحدي: تحقيق توازن دقيق بين العوامل الفيزيائية والبيولوجية في هذه العملية الحية والمركبة.
هذه النتائج تضيف بُعدًا جديدًا إلى فهمنا لتكوين نكهة القهوة. لم يعد التخمير مجرد نشاط ميكروبي على سطح الحبة، بل أصبح حوارًا كيميائيًا عميقًا بين الحبة وبيئتها. وبالنسبة للمزارعين والمحمّصين والبارستات، فإن فهم هذا الحوار يفتح الباب أمام تحكم أكبر – وإبداع أوسع – في النكهة النهائية.
لأن كل كوب قهوة رائع يبدأ بعدد لا يُحصى من الخطوات غير المرئية… وأهمها قد يحدث داخل الحبة نفسها.
المراجع العلمية:
-
Osorio, V. وآخرون. (2023). تحول الأحماض العضوية والسكريات في اللبّ وحبوب القهوة خلال التخمير المطوّل. مجلة تحليل مكونات الأغذية، 123، 105551. https://doi.org/10.1016/j.jfca.2023.105551
-
Kregiel, D. وآخرون. (2025). البصمات الكيميائية للعسل المخمر بواسطة الخمائر التقليدية وغير التقليدية. مجلة Molecules، العدد 30، الصفحة 2319. https://doi.org/10.3390/molecules30112319