Freshly picked coffee cherries in Ethiopia - the cradle of Arabica coffee. Ethiopia's smallholder farmers produce some of the world's most distinctive coffees, and the crop remains a linchpin of the national economy.

الرحلة العالمية للقهوة: من مواطنها التقليدية إلى آفاق جديدة

بقلم: الدكتور شتيفن شفارتس (مؤسسة كوفي كونسلت) & فريق التحرير في قهوة ورلد

في ساعات الفجر الباردة من مرتفعات إثيوبيا، يعتني مزارع صغير بأشجار البن العربي القديمة – نفس النوع الذي يُعتقد أن الرهبان استخدموه أول مرة في تحضير القهوة قبل قرون. وعلى الجانب الآخر من العالم، في مرتفعات فيتنام الوسطى، تصطف أشجار الروبوستا على امتداد التربة الحمراء، مشكّلةً مشهدًا زراعيًا تحول بالكامل في العقود الأخيرة. هذا التباين الجغرافي يعكس رحلة القهوة العالمية الحقيقية: تُزرع في أكثر من 80 دولة عبر “حزام القهوة”، وتُستهلك بشكل متزايد في كل مكان، من ساو باولو إلى شنغهاي.

تتناول هذه المقالة تطور إنتاج القهوة في الدول التقليدية الكبرى والناشئة، كما تستعرض تأثير التغير المناخي، واضطرابات سلاسل التوريد، والمضاربات المالية، والاتجاهات الاستهلاكية الجديدة التي تعيد تشكيل مستقبل هذه الصناعة. ومن خلال عدسة علمية موجّهة للمتخصصين في القهوة والصحفيين المهتمين، نستعرض كيف تُزرع القهوة، وتُتاجر، وتُحتسى في عالم سريع التغيّر.

الجذور.. في قلب مواطن القهوة التقليدية

(المساهمة الأصلية للدكتور شتيفن شفارتس)

تبدأ قصة القهوة كمحصول عالمي في غابات جنوب غرب إثيوبيا، حيث تطوّر بن الأرابيكا ونما بريًا. وتتناقل الأساطير المحلية قصة الراعي “خالد”، الذي لاحظ نشاط ماشيته بعد أن أكلت من ثمار الكرز الأحمر. سواءً أكانت القصة حقيقية أم لا، من المرجح أن الرهبان الإثيوبيين كانوا أول من حضّر القهوة في القرن الخامس عشر. ومن إثيوبيا، انتقلت زراعة القهوة إلى اليمن، حيث استخدمها الصوفيون في تأدية صلواتهم الليلية.

وبحلول القرن السابع عشر، وصلت القهوة إلى موانئ أوروبا، وبدأت القوى الاستعمارية في زراعتها في مستعمراتها الاستوائية. أدخلها الهولنديون إلى جزيرة جاوة (التي اشتُق منها مصطلح “جافا”)، وزرعها الفرنسيون في الكاريبي، بينما اختار البرتغاليون البرازيل. وهكذا بدأت إمبراطورية القهوة العالمية، التي انتقلت مع مرور الوقت حسب المناخ والتجارة.

استفادت البرازيل من أراضٍ شاسعة ومناخات مثالية، لتصبح الدولة المهيمنة على إنتاج القهوة عالميًا. وبحلول أواخر القرن التاسع عشر، أصبحت البرازيل أكبر مصدر للقهوة في العالم – وهو موقع ما زالت تحتفظ به حتى اليوم. تعلمت أجيال من المزارعين البرازيليين إتقان زراعة البن، خاصة في ولايات ريو دي جانيرو، ساو باولو، وميناس جيرايس، وتجاوزوا تقلبات السوق المعروفة باسم سياسة الحليب بالقهوة (Cafés com leite).

واليوم، تمثل البرازيل وحدها ما بين 30 إلى 40% من الإنتاج العالمي للقهوة (حوالي 65 مليون كيس زنة 60 كلغ سنويًا). وبالإضافة إلى تفوقها التاريخي في إنتاج أرابيكا، أصبحت في السنوات الأخيرة رائدة أيضًا في إنتاج نوع كانيفورا (C. canephora، المعروف خطأ باسم روبوستا). وفي موسم 2024/2025، بلغ إنتاج البرازيل من كانيفورا 21 مليون كيس – وهو رقم قياسي – ومن المتوقع أن يصل إلى 24.1 مليون كيس في 2025/2026. هذه الخطوة تمكّن البرازيل من التكيف مع التغيرات المناخية، إذ يُعرف الكانيفورا بقدرته على تحمل الحرارة والارتفاعات المنخفضة، رغم أنه لا يزال عرضة للجفاف.

أما كولومبيا، فقد أسهمت بدورها بشكل كبير في مسيرة القهوة، وارتبط اسمها عبر العقود بالقهوة المعتدلة عالية الجودة، ممثلةً بشخصية “خوان فالديز” الشهيرة. بعد انتشار مرض صدأ الأوراق في العقد الماضي، تعافت البلاد عبر تبنّي أصناف مقاومة. لكن إنتاجها ظل يتأثر بالعوامل المناخية.

وتشير التقديرات الأخيرة لوزارة الزراعة الأمريكية إلى أن إنتاج كولومبيا قد ينخفض بنسبة 5.3% ليصل إلى 12.5 مليون كيس في موسم 2025/2026 (مقارنة بـ13.2 مليون في العام السابق)، بسبب هطول الأمطار الغزيرة غير المعتاد الذي أعاق عملية الإزهار. هذه الظاهرة المرتبطة بظاهرة “النينيا” تُظهر أن حتى المرتفعات المدارية ليست بمنأى عن تقلبات المناخ. ومع ذلك، من المتوقع أن يتحسن الوضع المناخي في أواخر عام 2025، مع زوال تأثير النينيا.

تواجه كولومبيا تحديًا مستمرًا في الحفاظ على استقرار المحاصيل، خصوصًا مع تقدم عمر أشجار البن. ورغم جهود الاتحاد الوطني لمزارعي البن في تشجيع تجديد المزارع، فإن ارتفاع الأسعار مؤخرًا دفع العديد من المزارعين لتأجيل التجديد وبيع المحاصيل. ومع ذلك، تبقى كولومبيا ثالث أكبر منتج في العالم، ورمزًا للجودة في عالم القهوة المختصة.

آفاق جديدة.. آسيا، إفريقيا، ومنتجون غير تقليديين

تحليل موسّع من فريق تحرير قهوة ورلد

بينما تواصل البرازيل وكولومبيا الهيمنة على العناوين الرئيسية، تظهر اليوم جبهات إنتاج جديدة في آسيا، وإفريقيا، وحتى أوروبا، تعيد رسم خارطة القهوة وتُعزز تنوّعها ومرونتها.

فيتنام، على سبيل المثال، تُعد ثاني أكبر منتج للقهوة في العالم، بفضل إنتاجها المكثف من الروبوستا في المرتفعات الوسطى. واليوم، تنتج البلاد أكثر من 27.5 مليون كيس زنة 60 كلغ سنويًا، كما بدأت تُلفت الانتباه إلى محاصيل أرابيكا عالية الجودة من مناطق مثل “كاو دات” و”سون لا”.

الهند تنتج حوالي 5.8 ملايين كيس سنويًا، من خلال أكثر من 400,000 مزرعة صغيرة ومتوسطة الحجم، وتتركز زراعة القهوة فيها في ولايات كارناتاكا، وكيرالا، وتاميل نادو. يُشكّل الروبوستا نحو 70% من الإنتاج، والأرابيكا 30%. وتُعد مناطق مثل تشكماغلور ووايناد من المراكز الرائدة في إنتاج محاصيل مغسولة ومونسون التي تستهدف أسواق القهوة المختصة.

أما الصين، فقد أصبحت من أسرع الدول نموًا في إنتاج القهوة خلال العقدين الماضيين، خاصة في مقاطعة يونّان. وبلغ إنتاجها في موسم 2024/2025 حوالي 2.3 مليون كيس زنة 60 كلغ، مع توقعات بمزيد من النمو، مدفوعًا بزيادة الطلب المحلي في مدن مثل شنغهاي وبكين. وتدعم الحكومة الصينية توسعة مزارع الأرابيكا المحلية، مع التركيز على الجودة والتصدير للأسواق المتخصصة.

وفي إفريقيا، تعيد دول مثل رواندا، بوروندي، وأوغندا رسم موقعها في السوق العالمي. أوغندا، التي كانت معروفة بإنتاج الروبوستا، تعمل الآن على تعزيز إنتاج الأرابيكا في منطقتي جبل إلغون وروينزوري. أما رواندا، فقد عززت شفافيتها وجودة محاصيلها بفضل الشراكات مع منظمات غير حكومية، مما جعلها تحظى باهتمام المتخصصين.

وفي أوروبا، بدأت مزارع صغيرة في البرتغال وإسبانيا وجنوب إيطاليا إنتاج كميات تجريبية من الأرابيكا في بيئات دقيقة، مما يفتح الباب أمام تحولات مستقبلية محتملة بفعل التغير المناخي.

التغير المناخي والتقلبات المالية

في ظل التغير المناخي، أصبحت الأرابيكا معرضة بشكل متزايد لدرجات حرارة مرتفعة، وهطول غير منتظم، وآفات زراعية. بينما يُنظر إلى الروبوستا كحل بديل أكثر تحمّلًا، إلا أنه بدوره يتأثر بالجفاف الحاد.

تسببت هذه التقلبات المناخية في جذب المستثمرين والمضاربين الماليين إلى سوق القهوة، حيث باتت العقود الآجلة أداة تخلق تقلبات حادة في الأسعار. وغالبًا ما تكون هذه الأسعار غير مرتبطة بالتكاليف الحقيقية التي يتحملها المزارع، ما يُشكّل ضغطًا كبيرًا على صغار المنتجين، خاصة في الدول النامية التي تفتقر إلى آليات الحماية المالية.

دور المستهلك.. من سلعة إلى ثقافة

في الطرف الآخر من السلسلة، لم يعد المستهلك مجرد متذوق، بل أصبح مشاركًا فاعلًا في تحديد القيمة. من سيؤول إلى نيروبي، يتساءل المستهلكون اليوم: من زرع هذه القهوة؟ كيف تمت معالجتها؟ وهل تم إنتاجها بطرق أخلاقية ومستدامة؟

استجابة لهذا الوعي الجديد، بدأت الشركات في تبنّي مفاهيم جديدة مثل الشفافية، وتتبع المنشأ، والممارسات الزراعية الأخلاقية. وأصبحت المزارع الصغيرة، والطرق التجريبية في التخمر والتجفيف، جزءًا لا يتجزأ من استراتيجية التسويق، خصوصًا في محامص ومقاهي القهوة المختصة حول العالم.

نحو مستقبل متعدد الأقطاب للقهوة

تشير الاتجاهات إلى أن مستقبل القهوة سيكون متعدد الأقطاب، لا يقتصر على البرازيل وكولومبيا، بل يشمل أيضًا دولًا ناشئة مثل فيتنام، والصين، وأوغندا. ستكون القدرة على التكيف، والتكنولوجيا، واستجابة المستهلك هي العوامل الحاسمة في تحديد من سينجح ومن سيتراجع.

إن مستقبل القهوة لا يكمن في أمجاد الماضي الإمبريالي، بل في التكيّف، والشراكة، وتحقيق القيمة المشتركة. من مرتفعات إثيوبيا إلى جبال يونّان، ومن مقاهي ساو باولو إلى محطات المعالجة في كيغالي، تستمر رحلة القهوة – فنجانًا بعد فنجان، وخيارًا بعد خيار.

ملاحظة تحريرية

النصف الأول من هذا المقال كُتب بواسطة الدكتور شتيفن شفارتس (مؤسسة كوفي كونسلت). أما النصف الثاني، فقد قام فريق التحرير في قهوة ورلد بتوسيعه وتحديثه ليتضمن تحليلات حديثة واتجاهات السوق الحالية.

Spread the love
نشر في :
WhatsApp Icon