الشارقة – علي الزكري
على طريق مليحة في الشارقة، حيث تلتقي روح الأصالة بطموح المستقبل، وحيث تتراقص حبات الرمل الذهبية مع أحلام العصر الجديد، تقف “محمصة ساوث” كأيقونة حقيقية في سماء القهوة المختصة. لم تكن وجهتي إليها مجرد زيارة صحفية روتينية، بل كانت رحلة استكشاف، محطة للقاء عميق مع رائد المشهد، السيد أحمد الزعابي، الشريك المؤسس والرئيس التنفيذي، الذي استقبلنا بابتسامته الهادئة وفنجان قهوته الساخن، ليفتح لنا نافذة واسعة على عالم من الشغف والحرفية، عالم ولد من تمازج فريد بين الإدارة الإماراتية والسعودية في عام 2022.
- مجلس القهوة.. حيث يذوب الزمن في الفنجان
في صالة استقبال صُممت بعناية المهندس المعماري وذائقة الفنان، لا لتكون مقهى صاخباً يعج بالزوار، بل مساحة حميمية للعمل والتبادل الفكري، حيث يتلاشى “عجل” الحياة اليومية خلف دفء الفنجان ورائحة القهوة المحمّصة الطازجة، عقدنا جلسة قهوة مطولة.
كانت الجلسة أشبه بـ”مجلس قهوة” خاص، من تلك المجالس التي تُعقد في الصحراء تحت سماء مرصّعة بالنجوم، اتسمت بالود والشفافية والضحكات العفوية. ناقشنا خلالها نبض قطاع تتجاوز قيمته السوقية العالمية الـ 130 مليار دولار سنوياً، من أزقة المحاصيل النائية في مرتفعات اليمن وإثيوبيا وكولومبيا، إلى صخب الأسواق العالمية وبورصات نيويورك ولندن، حيث كان الأخ أحمد يقدم رؤيته وتحليلاته العميقة بمنتهى التواضع، مُصرًا على أنها “مجرد وجهة نظره”، بينما هي في الواقع شهادة دقيقة وموثّقة من أبرز الفاعلين في صناعة تُنتج أكثر من 10 ملايين طن من القهوة سنوياً.
- النضج الثقافي.. من الهوس العابر إلى الوعي المستدام
يرى الزعابي، وهو يحرّك فنجانه بحركة دائرية خفيفة كما يفعل خبراء التذوق، أن المشهد الإماراتي لثقافة القهوة قد عبر مرحلة البدايات الساذجة والتجريب الأعمى، ليبلغ مستويات متقدمة جداً من التطور والنضج. هذا التطور، الذي شهدته الدولة خلال العقد الأخير، ولّد سوقاً شديد التنافسية بأكثر من 4800 مقهى في دبي وحدها، ولكنه في جوهره يختزن “فرصاً هائلة للنمو والازدهار وتحقيق الدخل”.
المفتاح، كما يؤكد بنبرة الواثق من تجربته، ليس في تقليد الآخرين أو استنساخ النماذج الناجحة بشكل أعمى، بل في “الإدراك الحقيقي والدقيق لطبيعة السوق ومتطلباته والعوامل المؤثرة فيه، من التركيبة الديموغرافية إلى السلوك الاستهلاكي المتغير”.
ويؤمن الزعابي، بأن المكسب الحقيقي يُقاس بعيار آخر تماماً: “ليس المهم مقدار الكسب المادي المباشر في نهاية الربع المالي، بل مدى ثقة الناس بالمنتج الذي تقدمه. هذه الثقة هي رأس المال الحقيقي، هي الكنز المدفون الذي يصنع الولاء المتين والنجاح الحقيقي على المدى الطويل في سوق لا يرحم الضعفاء.”
وبالحديث عن موجة القهوة المختصة التي اجتاحت المنطقة كإعصار منعش منذ منتصف العقد الماضي، يؤكد الزعابي بثقة المحلل المخضرم أن هذه الموجة “نضجت تماماً ووصلت إلى مرحلة الاستقرار”. لم يعد الأمر مجرد “هوس” عابر يتبع الصيحات والترندات على وسائل التواصل الاجتماعي، بل تحول إلى ثقافة متينة ومتجذرة، غربلت رواد الموضة الذين جاؤوا من باب الفضول، وأبقت على “أصحاب الأذواق الحقيقية والمتعطشين للجودة”.
هذا النضوج الملموس انعكس بوضوح على جودة المقاهي نفسها وارتفاع معاييرها، حيث أصبح المستهلك الإماراتي اليوم، وبخاصة الجيل الجديد المثقف والمسافر، “قادراً بشكل دقيق على اكتشاف جودة القهوة وقيمتها الحقيقية”، متحولاً من متلقٍ سلبي يشرب ما يُقدم له، إلى شريك واعٍ ومتفاعل في تقييم المنتج ومحاسبة مقدم الخدمة.
- دبي ومزايدة الأرقام.. ثقل استراتيجي لا تسويقي فقط
انزلق الحوار برشاقة نحو الضجيج الإعلامي الذي أحدثته دبي مؤخراً في سوق القهوة العالمي، ذلك الضجيج الذي أشعل وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي. بدءاً من دفع أغلى قيمة مسجلة للكيلوغرام من محصول “غيشا” النادر من بنما حيث دفع مقهى من دبي 604,080 دولاراً لقاء 20 كيلوغراماً من قهوة الجيشا المغسولة من مزرعة هاسيندا لا إسميرالدا في بوكويت – بنما، وصولاً إلى التنافس المحموم على تقديم أغلى كوب قهوة في العالم حيث قفز السعر من 680 دولاراً إلى ألف دولار في خلال شهرين.
يرى الزعابي، وهو يبتسم ابتسامة العارف بطبيعة المدينة، أن دبي، كوجهة عالمية للتميز والسبق في مختلف المجالات من العقارات إلى الضيافة، لم تكن القهوة لتكون بعيدة عن هذا السعي الحثيث للأرقام القياسية ودخول موسوعة غينيس. لا يرى في هذا التنافس، رغم غرابته أحياناً، ضرراً جوهرياً على روح الصناعة أو قيمها، بل يراه نوعاً ذكياً من الزخم التسويقي والترويجي الذي يضيف شهرة واسعة للمنطقة ككل، ويضع الإمارات على خريطة عشاق القهوة العالمية، ويمنح فئة معينة، تلك الفئة العاشقة للتميز والتجارب الاستثنائية والقادرة مادياً على خوض هذه المغامرات، مساحتها الخاصة للاستمتاع والتباهي.
- صمود الإرادة.. تحديات الميزان العالمي وتأهب 2026
لم يغفل النقاش عن التحديات الجسام التي ألقت بظلالها الكثيفة على المشهد العالمي خلال العامين الماضيين. تحديداً، تحدثنا عن ارتباك التعريفات الجمركية وحروبها التجارية بين القوى الكبرى، وقسوة التغيرات المناخية التي باتت تشكل تهديداً وجودياً لمناطق المحاصيل الرئيسية في البرازيل وفيتنام وكولومبيا (انخفض إنتاج البرازيل بنسبة 25% في موسم 2024 بسبب الجفاف)، والاضطرابات المتلاحقة في سلاسل الإمداد والشحن البحري التي رفعت التكاليف بنسبة تتراوح بين 30-50% في بعض الخطوط.
حيث يرى الزعابي أن الدولة، بفضل موقعها الجغرافي الفريد كبوابة بين الشرق والغرب، وريادتها اللوجستية المعترف بها عالمياً، وحكمة قيادتها الرشيدة، تمكنت من بناء جدار صلب وحصين حول القطاع المحلي: “بفضل سياستها الحكيمة والاستباقية، وتوافر مخزون استراتيجي واسع ومتنوع من مختلف الأصناف والمحاصيل، وشبكة علاقات تجارية ممتدة، تمكنت الإمارات من تجاوز عواصف السوق العالمية بمهارة فائقة ومرونة استثنائية.”
ومع إقراره الواضح بأن الأثر الإجمالي المباشر للتحديات كان محدوداً نسبياً على السوق المحلي، ولم يترك ندوباً عميقة على أسعار المستهلك النهائي أو توافر المنتجات، إلا أنه، وبصفته متابعاً خبيراً لا تفوته تفاصيل السوق الدقيقة، أشار بحذر المحلل الاقتصادي إلى أن الضغوط المتراكمة المرتبطة بالتغيرات المناخية وزيادة تكاليف الشحن والنقل قد “تُفصح عن نفسها بوضوح أكبر في العام القادم 2026”.
هذه إشارة ضمنية صريحة إلى ضرورة التأهب والاستعداد لتقلبات ملموسة في أسعار وجودة بعض المحاصيل الرئيسية، وهو ما يعكس نظرة استشرافية عميقة ومدروسة لتقلبات السوق العالمية وتأثيراتها المتأخرة.
أما عن موجة “الماتشا” الخضراء التي اجتاحت المقاهي مؤخراً وأثارت جدلاً واسعاً حول مستقبل القهوة، فأكد الزعابي، وبنبرة الواثق من جذور القهوة العميقة، حقيقة ثابتة لا تتزعزع: “القهوة ستظل هي القهوة،”، مشيراً إلى أن موجة الماتشا، رغم جاذبيتها اللحظية، بدأت بالفعل في التراجع والخفوت، لتبقى القهوة، وللأبد، سيدة المشروبات الساخنة بلا منازع.
- ساوث.. من محمصة إلى مصنع متكامل بآفاق آسيوية واعدة
“ساوث” ليست مجرد محمصة عادية تبيع أكياس القهوة، بل هي كما يصفها الزعابي بفخر واضح “مصنع متكامل” يركز على الجودة العالية والتميز في كل مراحل الإنتاج، من انتقاء الحبوب الخضراء إلى التحميص والتعبئة والتوزيع.
بعد تحقيق نجاح لافت ومدهش في السوق المحلي خلال عامين ونصف فقط، تدرس الشركة حالياً وبجدية كبيرة إمكانيات التوسع الجغرافي خارج الحدود الإماراتية. الغريب والمثير للدهشة أن الزعابي أشار بوضوح إلى أن التوسع لا يستهدف أسواق الخليج المجاورة بالدرجة الأولى كما قد يتوقع البعض، بل يتجه بطموح كبير نحو الأسواق الآسيوية الصاعدة والواعدة وبعض أسواق شرق أفريقيا الناشئة، حيث يرى الزعابي إمكانات نمو ضخمة وشريحة مستهلكين متعطشة للجودة.
وبتفاؤل حذر ومدروس، توقع وجوداً ملموساً لـ”ساوث” في هذه الأسواق الجديدة ربما مع نهاية 2026 أو بداية 2027 على أبعد تقدير، مع خطة واضحة للافتتاح التدريجي وبناء الشراكات المحلية الموثوقة.
- أكاديمية ساوث.. الاستثمار في العقول قبل الآلات
واستثماراً حقيقياً في المستقبل البعيد، شدد الزعابي بحماس واضح على أهمية التدريب والتطوير المستمر، معتبراً إياه “حاجة مُلحة لا ترفاً أو كمالية يمكن تأجيلها”، خصوصاً في عالم متسارع يشهد تطوراً مستمراً في التقنيات الحديثة ومهارات الباريستا وفنون التحضير والإضافة (انتشرت خلال السنوات الخمس الماضية أكثر من 20 طريقة جديدة لتحضير القهوة المختصة).
ولهذا السبب تحديداً، ومن هذا الإيمان العميق بالمعرفة، جاءت “أكاديمية ساوث للتدريب”، تلك المبادرة الطموحة التي لا يكمن هدفها الأساسي في تحقيق الأرباح المباشرة، بل في هدف أسمى وأشمل وهو “تعزيز المهارة الحرفية الحقيقية، ونشر ثقافة المهنة واحترامها، وتعزيز التواصل المعرفي والخبراتي بين العاملين في القطاع”.
الأكاديمية، التي افتتحت مطلع 2025، استقبلت حتى الآن أكثر من 300 متدرب من مختلف الجنسيات والخلفيات، وتقدم برامج متخصصة معتمدة دولياً تتراوح من الدورات التأسيسية للمبتدئين إلى ورش العمل المتقدمة لمحترفي التحميص والتذوق.
- الفعاليات الكبرى.. تلاقٍ حضاري وارتقاء بالذائقة الجماعية
في ختام هذا الحوار الثري والممتع، الذي امتد لأكثر من ثلاث ساعات متواصلة، أكد الزعابي وبصوت مفعم بالشغف على الدور المحوري والحاسم لفعاليات القهوة الضخمة التي تحتضنها الإمارات بسخاء سنوياً، وعلى رأسها معرض “عالم القهوة دبي”، وبطولات القهوة الوطنية والإقليمية التي تشهد منافسات محتدمة بين ألمع الأسماء.
هو يراهن، وبكل ثقة المخطط الاستراتيجي، على هذه الملتقيات الدورية كـ”أحد أهم عوامل ازدهار السوق المحلي وتطور الصناعة بشكل عام على المستويين الإقليمي والعالمي”.
هذه المنصات الحيوية تتجاوز بكثير كونها مجرد أسواقاً تجارية أو معارض للبيع والشراء، لتصبح بؤراً مشعة للمعرفة والثقافة والإبداع. هي ساحات حقيقية لتلاقي الحضارات المختلفة وتبادل الخبرات الغنية بين نخبة صناع القهوة العالمية، ومحفل يُثرى فيه الذوق العام ويُرتقى به، وتُصقل فيه مهارات الباريستا الشباب ليواكبوا بثقة أحدث الاتجاهات وأرقى فنون التحضير والإبداع في عالم القهوة المتجدد.
هذه الفعاليات، بحضورها الدولي المهيب وتنظيمها الاحترافي الرفيع، تؤكد للعالم أجمع أن الإمارات ليست مجرد ممر تجاري أو سوق استهلاكي، بل هي مختبر فكري حي ومركز إشعاع حضاري يرفع باستمرار من مكانة القهوة، محوّلاً إياها من مجرد سلعة تجارية عادية إلى قيمة ثقافية راسخة وموروث إنساني يستحق الاحتفاء والتقدير.
“ابتسم، حُمصت في الشارقة” – هذا الشعار البسيط والعميق في آن واحد يلخص بدقة روح المحمصة التي تبتكر يومياً وتعيد بشجاعة تعريف تجربة القهوة عبر مزيج ساحر من الحرفية العالية والشغف المتقد والإصرار على التميز، مؤكدة للجميع أن القهوة في الإمارات ليست مجرد مشروب صباحي عابر، بل هي ثقافة ناضجة متجذرة ومستقبل واعد يُكتب فصوله اليوم على أرض الشارقة، حبة حبة، وفنجان فنجان.
Gallery







