
متى تكون القهوة مفيدة ومتى تُصبح ضارة؟ العلم يكشف أسرار المشروب الأكثر انتشارًا في العالم
دبي – قهوة ورلد
لماذا يستطيع بعض الأشخاص احتساء الإسبريسو كالماء، بينما يعاني آخرون من الأرق والارتباك بعد فنجان واحد؟ يوضح العلماء أن الأمر يعتمد على العوامل البيولوجية والجينية، وعلى الكيفية التي يتعامل بها الجسم مع الكافيين. فقد أظهرت دراسات متزايدة أن القهوة تمنح فوائد صحية واضحة للكثيرين، لكنها قد تُشكل خطرًا حقيقيًا على آخرين.
ميك ذا فيغن، المتخصص في الصحة العامة وصاحب قناة علمية معروفة، استعرض مؤخرًا عشرات الدراسات السريرية التي تناولت التأثيرات الصحية الكاملة للقهوة، بدءًا من صحة القلب والعقل وصولًا إلى الخرف وطبيعة الأيض الجيني للكافيين. وقدّم من خلالها رؤية علمية متوازنة حول متى تكون القهوة عنصرًا داعمًا للصحة ومتى تتحول إلى عامل خطر. يقول ميك: «أنا لست من كارهي القهوة ولا من مدمنيها، أردت فقط أن أفهم لماذا يتفاعل جسمي معها بقوة، وما الذي يقوله العلم عن ذلك».
تأثير القهوة كمنبه..طاقة وتركيز وقلق
يعمل الكافيين على تعطيل مادة الأدينوزين المسؤولة عن الإحساس بالنعاس، ويُحفّز في الوقت نفسه مستقبلات الدوبامين ويفرز الأدرينالين، وهو ما يجعل القهوة أكثر المنبهات استهلاكًا في العالم. وأظهرت تجربة علمية عشوائية أن المشاركين الذين تناولوا القهوة ساروا بمعدل ألف خطوة إضافية يوميًا مقارنة بالأيام التي لم يشربوا فيها القهوة، وهو سلوك قد يفسر جزئيًا انخفاض معدلات الوفيات القلبية بين من يتناولونها باعتدال. كما ثبت أن القهوة تحسن سرعة الاستجابة والقدرة على التركيز، بل وتزيد من كفاءة الأداء في بعض الألعاب الإلكترونية.
غير أن هذا التحفيز المفرط له ثمنه. فجرعات الكافيين العالية قد تُثير القلق أو حتى نوبات الهلع لدى بعض الأشخاص الحساسين. ويعترف ميك قائلًا: «أشعر أحيانًا بنكهة خفيفة من القلق بعد عدة أكواب من القهوة». ويقترح العلماء حلاً طبيعيًا لتخفيف هذا الأثر، يتمثل في حمض أميني يُدعى “الثيانين” الموجود في الشاي الأخضر، حيث أظهرت دراسات أن تناوله مع الكافيين يخفف التوتر مع الحفاظ على التركيز.
القلب والدورة الدموية.. فائدة مشروطة
تشير الدراسات السكانية الكبرى إلى أن تناول القهوة باعتدال – أي بمعدل كوبين إلى ثلاثة يوميًا – يرتبط بانخفاض يتراوح بين 10 و20 بالمئة في معدلات الوفيات العامة. كما بينت دراسة أخرى أن الأشخاص الذين نجوا من أزمة قلبية وسُمح لهم بتناول كوبين أو أكثر يوميًا، انخفض لديهم خطر الوفاة بنسبة تصل إلى 40 بالمئة. ويرجع الباحثون هذه الفائدة إلى احتواء القهوة على مضادات أكسدة تقلل من التهابات الشرايين.
لكن هذه الفوائد لا تشمل الجميع. إذ يحذر أطباء القلب في “عيادة كليفلاند” من أن كوب القهوة الصباحي قد يرفع ضغط الدم بما يصل إلى عشر نقاط، وهو ما قد يشكل خطرًا لمن يعانون من ارتفاع ضغط الدم المزمن. كما أظهرت دراسة لجمعية القلب الأمريكية أن الأشخاص المصابين بارتفاع ضغط الدم من الدرجة الثانية أو الثالثة ويشربون كوبين إلى ثلاثة يوميًا، تضاعف لديهم خطر الوفاة الناتجة عن أمراض القلب. ويُضاف إلى ذلك أن الكافيين قد يُسبب انقباض الأوعية الدموية، حيث أظهرت إحدى الدراسات أن جرعة قدرها 250 مليغرامًا – أي ما يعادل كوبًا كبيرًا من القهوة – تقلل تدفق الدم في الدماغ بنسبة تتراوح بين 22 و30 بالمئة، رغم أن الجسم قد يعتاد هذا التأثير مع الوقت. كما أن التوقف المفاجئ عن القهوة يؤدي إلى زيادة مؤقتة في تدفق الدم، وهو ما قد يفسر الصداع الناتج عن الانسحاب من الكافيين.
الصحة النفسية ووظائف الدماغ
العلاقة بين القهوة والصحة النفسية معقدة ومتباينة. فبينما تؤدي الجرعات العالية إلى زيادة القلق، ترتبط الكميات المعتدلة بانخفاض معدلات الاكتئاب. وتشير الدراسات إلى أن من يشربون كوبين أو أكثر يوميًا تقل لديهم احتمالية الإصابة بالاكتئاب بنسبة 32 بالمئة مقارنةً بغيرهم. أما في ما يتعلق بصحة الدماغ على المدى الطويل، فقد وجدت مراجعة علمية شاملة أن خطر الإصابة بالخرف لا يتغير كثيرًا مع القهوة، لكن استهلاكها المرتفع ارتبط بانخفاض خطر الإصابة بمرض ألزهايمر بنسبة تصل إلى 30 بالمئة. ومع ذلك، حذرت دراسة أخرى من أن تناول ستة أكواب أو أكثر يوميًا – سواء كانت القهوة محتوية على الكافيين أو خالية منه – ارتبط بزيادة خطر الإصابة بالخرف بنسبة 50 بالمئة. ويُرجّح الباحثون أن السبب يعود إلى التأثيرات الوعائية التراكمية الناتجة عن الإفراط في الكافيين.
العوامل الجينية.. القهوة لا تناسب الجميع
تتحكم الجينات أيضًا في مدى استفادة الجسم من القهوة أو تأثره بها. إذ يُعد إنزيم الكبد “CYP1A2” مسؤولًا عن سرعة تكسير الكافيين في الجسم، وقد بيّنت الأبحاث أن الأشخاص الذين يُفككون الكافيين ببطء لديهم ضعف خطر الإصابة بالنوبات القلبية إذا شربوا كوبين أو أكثر يوميًا، فضلًا عن أنهم أكثر عرضة للأرق والقلق. وقد أظهر تحليل ميك لبياناته الجينية أنه من الفئة المتوسطة في سرعة الأيض، أي ليس حساسًا جدًا ولا عالي التحمل. وهناك جين آخر يُدعى “ADORA2A” يرتبط بتأثير الكافيين في النوم والمزاج، ما يفسر اختلاف ردود الفعل تجاه القهوة من شخص لآخر.
ما وراء الفنجان.. نتائج صحية أخرى
رغم الاعتقاد الشائع، لم تجد الدراسات الوبائية علاقة واضحة بين القهوة وحرقة المعدة أو ارتجاع الحمض. كما وجدت إحدى الدراسات أن زيادة استهلاك القهوة بمقدار كوب واحد يوميًا تقلل خطر الإصابة بمرض السكري من النوع الثاني بنسبة 11 بالمئة. أما في ما يخص السمنة، فقد جاءت النتائج متباينة؛ إذ أظهرت بعض التجارب أن القهوة تساعد على خفض الدهون وزيادة الكتلة العضلية، بينما أشارت أخرى إلى أنها قد تزيد من الرغبة في تناول الحلويات. كذلك تبين أن إضافة الكريمة أو الحليب الحيواني تُضعف الفوائد المضادة للأكسدة في القهوة، بينما يبقى تأثيرها الإيجابي في أفضل حالاته عند تناولها سوداء أو مع بدائل نباتية. ومن المثير للاهتمام أن بحثًا نُشر في عام 2025 أظهر زيادة في نوع من البكتيريا المفيدة المنتجة لحمض البيوتيرات لدى شاربي القهوة، وهي نتائج أولية لكنها واعدة.
النتيجة.. الفائدة بقدر الاعتدال
في المجمل، يبدو أن تناول القهوة باعتدال يعود بفوائد واضحة، منها تعزيز التركيز والذاكرة والحماية من الاكتئاب، وربما إطالة العمر. ومع ذلك، قد تتحول هذه الفوائد إلى أضرار لدى من يعانون من ارتفاع ضغط الدم أو بطء في استقلاب الكافيين أو من يفرطون في شربها يوميًا. وللحفاظ على التوازن الصحي، يُنصح بتناول القهوة السوداء أو النباتية، وعدم تجاوز كوبين إلى ثلاثة في اليوم، وتجنبها في المساء، وإضافة “الثيانين” لمن يشعرون بتوتر بعد شربها. ويختتم ميك بقوله: «تتضاعف احتمالات الإصابة بأمراض القلب إن لم تكن جيناتك مهيأة للتعامل مع الكافيين، وهذا أمر مدهش بالفعل».
وهكذا، فإن القهوة ليست جيدة أو سيئة على نحو مطلق، بل هي مشروب نباتي قوي التأثير، يمنح فوائده لمن يعرف حدوده، ويُسبب الضرر لمن يتجاهل لغة جسده وفطرته مع كل فنجان.